19.44°القدس
19.2°رام الله
18.3°الخليل
24.96°غزة
19.44° القدس
رام الله19.2°
الخليل18.3°
غزة24.96°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

علم تخريج الحديث بين الضرورة والترف

6
6
وائل علي البتيري

يشهد علم تخريج الحديث الشريف ونقده عناية بالغة لدى كثير من المشتغلين بالعلم والدعوة. ولا شك أن لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه أهمية كبيرة في تقويم أقوال الدعاة والعلماء وأفعالهم، وإنه لمن المعيب أن يقوم داعية مشهور خطيباً في جمع مهيب وهو يسرد في خطبته عشرات الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، ناسباً إياها إلى النبي المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم القائل: "من كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوّأ مقعداً من النار".

كانت غلطة كبيرة تلك التي وقع فيها أحد علماء الحديث حينما قال إن "علم الحديث نضج واحترق".. فإن المشتغل في هذا العلم يقف على كثير من الأوهام والأخطاء التي وقع فيها حتى الأئمة المتقدمون، الأمر الذي يدل على أن الآخِر لا بد وأنه مستدركٌ على الأول، فإن هذا العلم تراكمي، ولا يقف عند حد معيَّن.

وما أكثر ما كان الشيخ المحدّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله يصف علم الحديث بأنه "علم لا يقبل الجمود"، ومن تتبع نقدات الألباني نفسه للعلماء المتقدمين منهم والمتأخرين؛ يرى كيف كان الشيخ يتعامل مع هذا العلم بمرونة جعلته يتجرأ على تخطئة علماء كبار، حتى إنه كان يصرّح مراراً بأن صحيحي البخاري ومسلم لا بد وأنهما يحويان أحاديث ضعيفة؛ إلا أنه لم يتفرغ لدراستهما حتى يستطيع تحديد نسبة هذه الأحاديث.

لكن؛ ثمة ظواهر سلبية اكتنفت هذا العلم، صنعتها أيدي كثير من العاملين في تحقيق الحديث الشريف، فقد بتنا مثلاً نرى أكثر المشتغلين في هذه الصنعة يتخذونها حرفة يتكسّبون بها، فلا غرو أن تحدِّد دار من دور النشر شهراً مثلاً لإخراج كتاب محقق من كتب التراث، فيصبح الحكم على الحديث صحة وضعفاً مرتبطاً بهذه المدة القصيرة (الشهر)، وبالتالي يضطر العاملون إلى تمشية الأمر على أي صورة كانت، ليغدو الالتزام بالموعد الذي يترتب عليه قبض الأموال؛ أهم من نسبة قول إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يقُله، أو نفي هذه النسبة عن قولٍ قاله فعلاً!!

هناك أمر آخر ينبغي التنبيه إليه، وهو أن العلماء يختلفون في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وخصوصا ما يتعلق بالأحاديث الحسنة أو الضعيفة التي ترتبط تقويتها بالشواهد والمتابعات، هذا فضلاً عن الأحاديث المعلولة التي ظاهرها الصحة، إلا أن علة خفية اعترتها لا يكشفها إلا النقادُ المتقنون.

غايتنا القول بأن هذه الأحاديث لن ينتهي الخلاف فيها مهما امتد بنا العمر، وتكاثر على تمحيصها العلماء والمحققون محاولين نبذ الاختلاف عليها بالإجماع على قبولها أو ردّها. وعليه؛ فما فائدة الجهود الكبيرة المبذولة اليوم في ساحات العلم الشرعي، من أجل تصويب قول من الأقوال في ترجيح تصحيح حديث أو تضعيفه، وخصوصاً تلك الأحاديث الكثيرة التي لا ينبني على تصحيحها أو تضعيفها كثير أهمية، ويبقى الحكم عليها محصوراً في دائرة الظن.

ما أود اقتراحه هنا؛ هو أن تُجمع الأحاديث التي لا يُختلف على أنها موضوعة أو مكذوبة أو لا أصل لها أو ظاهرة الضعف في موسوعة واحدة، ليتم الحذر من الاستشهاد بها. أما الأحاديث الضعيفة والحسنة والصحيحة، التي يقوم الحكم عليها على الظن، والظن فحسب، فالاشتغال بها مضيعة للوقت والجهد والمال، إلا أن يكون ذلك قائماً على أمرين اثنين:

الأول: أن تُجمَع الأحاديث التي يُنظر إلى متونها على أنها تحوي إشكالية ما، كمخالفتها للقرآن أو العقل أو الواقع، مما قد يُتخذ ذريعة للطعن في الإسلام، ليتم دراستها دراسة نقدية متعمّقة للتأكّد من صحة السند واستخلاص لفظ المتن الراجح، ثم بيان مدى صحة الإشكالية المدّعاة أو خطئها.

الثاني: أن يتفرغ لهذا العمل هيئة مشكَّلة من جمع من العلماء المحققين المعروفين بالتقوى ورسوخ القدم في هذا العلم الشريف، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وآرائهم الفكرية، على أن يتبنى هذا العمل جهة مستقلّة غير مدعومة من جماعة معينة أو دولة ما.

ما سوى ذلك من الأحاديث التي ينقسم أهل العلم حولها بين مصحِّحٍ ومحسِّن ومضعِّف؛ فلسنا بحاجة إلى الاشتغال بها، وتضييع أموال الأمة وجهودها وأوقاتها في الحكم عليها، إلا أن تعود الأمة - بعد تحرير الأوطان المسلوبة، وإقامة حكم الله في الأرض - إلى عصر الترف العلميّ الذي أدى بواحد من علمائها مثلاً أن يفترض وجود مصلٍّ بين السماء والأرض في عهد لم تكن فيه طائرات، ليبحث في الجهة التي يجب أن يتوجه إليها المصلي!!

قديماً قال ابن الجوزي: "تاب على يديَّ مئة ألف، وأسلم على يديَّ عشرون ألفاً"، واليوم يقول بعضهم: حققت كذا وكذا من كتب الحديث الشريف.. لم تستفد منها الأمة شيئاً، في وقت يُهان فيه الإسلام وأهله، وتُنتهك فيه الأعراض والحرمات، وينخر الفساد والفقر والبطالة في المجتمعات المسلمة.. ولا من مغيث!