ما أن اندلعت الهبة الجماهيرية والانتفاضة الشعبية في القدس والضفة الغربية حتى انطلقت دعوات تحذّر من تحويلها إلى مقاومة مُسلّحة , وتنذر الناس من مغبة استخدام الطرق العنيفة في مقاومة الاحتلال , وتنادي بالمقاومة الشعبية السلمية شارحةً مميزاتها ومبيّنة إيجابياتها , داعية للعقلانية والسلمية والتمسك بخيار ( السلام الاستراتيجي ) الذي بدأ باتفاقية اوسلو ولا يزال يمارس رياضة المشي في المكان , زاعمةً أن مربع العنف هو الذي تريده الحكومة الصهيونية وتسعى لجرنا إليه وكأنها تخلّت عن ممارسة العنف لحظةً واحدة . فما هي الفلسفة والمبررات التي ترتكز عليها هذه الدعوات ؟ وما مدى مصداقيتها وفاعليتها في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني الوطنية ؟ .
هذه الدعوات ترتكز على فلسفة اللاعنف وهي فلسفة أخلاقية وإستراتيجية سياسية تنبذ استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو وطنية انطلاقاً من تقديس قيمة الحياة للإنسان , وهي استراتيجية وسط بين الاستسلام والرضوخ وبين النضال المسلّح , وتهتم بمواجهة الاستبداد والطغيان والظلم بوسائل شعبية سلمية . ومستوحاة من بعض التجارب الشعبية التي ناضلت ضد الطغيان بكافة صوره كالاحتلال الاجنبي في تجربة المهاتما غاندي في الهند , والتفرقة العنصرية في تجربة نلسون مانديلا في جنوب افريقيا , والتمييز في الحقوق المدنية بين البيض والسود في تجربة مارتن لوثر كينج في الولايات المتحدة الأمريكية .
وهذه الدعوات ترتكز على مبررات خاصة بالتجربة الفلسطينية منها أنها الشكل الأنسب للمقاومة كمجتمع أعزل في مواجهة احتلال متفّوق عسكرياً , وهي وسيلة مقاومة مناسبة للأضعف عسكرياً كي لا يدفع الشعب ثمناً باهظاً يفوق قدرته على التحّمل , وانها تشرك كافة فئات الشعب في مقاومة الاحتلال , وتعري الاحتلال أمام المجتمع الدولي وتكشف جرائمه , وتوّسع حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة . وهذه المقاومة الشعبية السلمية في الداخل مع العمل السياسي والاعلامي في الخارج إضافة إلى اللجوء للمحافل الدولية يٌفترض أن يُترجم في نهاية الأمر إلى ضغط دولي على الكيان الصهيوني يؤدي بدوره إلى الاستجابة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني .
ورغم أخلاقية هذه الفلسفة السلمية إلا انها لا تنسجم وطبيعة الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني الذي يختلف تماماً عن تجارب الشعوب التي خاضت هذا النوع من المقاومة سابقاً , والتي خاضت صراعاً ضد أنظمة عنصرية مستبدة أو ضد حكم استعماري ليس له أطماع استيطانية , وهذا النوع من الصراع يُمكن هزيمة العدو فيه بإستراتيجية المقاومة الشعبية السلمية طويلة الأمد بعد استنزاف العدو وإرهاقه لُيسلّم بالحقوق المشروعة التي يُطالب بها الشعب . وهذا يختلف عن صراعنا مع العدو الصهيوني المدجج بعقيدة عنصرية استعلائية , وبكافة أنواع الأسلحة الفتّاكة , وذو الطبيعة الاستيطانية الاحلالية التي تسعى لإحلال شعب مكان آخر , فهو صراع وجود يتعلّق بوجود أحد الشعبين على نفس الأرض أو عدم وجوده , وليس صراعاً على المصالح والحدود والحقوق المدنية وغيرها . وهذا النوع من الصراع لا يمكن تحقيق النصر فيه بأساليب المقاومة السلمية فقط .
ورغم أهمية المبررات التي ترتكز عليها هذه الدعوات والتي تستند بدورها على فرضية إحراج العدو وكشف جرائمه واستدعاء الضغط الدولي على الكيان الصهيوني ليستجيب للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني , إلا أن هذه الفرضية غير دقيقة ومبنية على قراءة خاطئة لطبيعة العلاقة بين الكيان الصهيوني والغرب . فالمشروع الصهيوني في فلسطين هو إفراز للمشروع الغربي ضد الامتين العربية والاسلامية , ورأس حربته الضاربة في المنطقة , والكيان الصهيوني إحدى وسائل الغرب للعنف وإدامة العنف ضد كل من يحاول رفع رأسه ضد الهيمنة الغربية والتخّلص من التبعية , لذلك فإن الضغط الغربي – الاوروبي والأمريكي – على الدولة العبرية لن يتجاوز السقف المسموح به وفي الإطار الكلامي والاعلامي فقط , ولن يتحّول إلى فعل ضاغط ومؤثر على السياسة الصهيونية لدرجة تؤدي لتحقيق أهدافنا الوطنية .
وهذه الدعوات للمقاومة السلمية تتجاهل دور المقاومة المسلحة في إلحاق الهزيمة بالاحتلال الصهيوني في كل من جنوب لبنان وقطاع غزة , ففي كلتا الحالتين انسحب الجيش الإسرائيلي دون مفاوضات أو شروط , وفي تجربة غزة قام بتفكيك المستوطنات الصهيونية التي كان يعتبرها رئيس وزراء العدو آنذاك أرئيل شارون مثل تل ابيب من حيث الأهمية عندما قال أن حال نتساريم كحال تل ابيب مشيراً إلى مستوطنات غزة , ولم يمضِ زمن طويل حتى غير قناعاته تحت ضربات المقاومة بطريقة عكسية تماماً واعتبرها عبئاً أمنياً واقتصادياً على الكيان الصهيوني . هذه المقاومة هي التي تجعل الاحتلال باهظ الثمن ومكلّف للعدو , وهي التي تجعل الاستيطان مشروعاً فاشلاً بارتفاع تكلفته الامنية والاقتصادية , وهي التي تضع الكيان الصهيوني بأسره في مأزق أمني ووجودي من خلال تقويض الأساس الذي أقيم عليه المشروع الصهيوني الذي أراد لدولة ( اسرائيل ) أن تكون المكان الأكثر آمناً لليهود في العالم .
وهذه التجربة يمكن تكرارها في الضفة الغربية لتنتهي بانسحاب الجيش الاسرائيلي وتفكيك المستوطنات الصهيونية عندما يضطر العدو الصهيوني للانسحاب من الضفة الغربية حفاظاً على وجود الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة عام 1948 م , اذا ما اصبح المشروع الاستيطاني في الضفة مكلفاً ويهدد وجود الدولة العبرية برمته .
وختاماً فالمقاومة الشعبية السلمية لا ينبغي أن تكون بديلاً عن الأشكال الأخرى من النضال وعلى رأسها الكفاح المسلّح , بل يجب أن تكون رديفاً للمقاومة المسلّحة وإلى جانبها , أما إذا اقتصر الأمر على المقاومة السلمية – كما يريد البعض – فهي أفضل الوصفات لإطالة عُمر الاحتلال .