جاءت انتفاضة القدس الحالية في ظروف ومعطيات محلية واقليمية ودولية غير مشجّعة , ورغم وجود محاذير وتخوّفات عديدة مُعيقة , فكانت صناعةً للمستحيل وتجلّياً للعبقرية التي أدت بالشعب الفلسطيني إلى التقاط اللحظة التاريخية المناسبة لتفجير الانتفاضة والانطلاق قُدماً إلى الأمام , محوّلاً التهديدات إلى فرص واليأس إلى أمل والإحباط إلى عمل , تاركاً خلفه قيادة سياسة عاجزة ونخب حزبية جامدة , مجسّداً وحدته بالدم بعد أن مزّقتها القبائل , ومحطّماً أغلاله بالعرق بعد أن ضيّقت اوسلو حلقاتها , صارخاً بأعلى صوته : هذه المرة نستطيع , نستطيع أن نجعل لتضحياتنا ثمن , ثمن لا يقل عن طرد الاحتلال وإزالة الاستيطان , نستطيع أن نحرر الضفة الغربية مرة واحدة وإلى الأبد .
نستطيع – نحن الشعب الفلسطيني – أن نفعل ذلك عندما نحوّل هذه الهبة الجماهيرية إلى انتفاضة شعبية متواصلة ومقاومة شاملة مستمرة , ثم نحوّل هذه الانتفاضة وتلك المقاومة إلى مشروع وطني مقاوم لديه هدف مركزي واضح ومحدد ومُجمع عليه فلسطينياً وهو : تحرير الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية بالكامل بدون مفاوضات أو شروط مسبّقة في إطار المشروع الوطني الفلسطيني الأكبر الرامي إلى تحرير كل فلسطين . نستطيع أن نفعل ذلك إذا كان لهذا المشروع قيادة وطنة موّحدة , لديها خطة استراتيجية واضحة , وبرنامج نضالي تصاعدي , واساليب نضالية متنوعة , وصندوق وطني يتحمل كلفة الانتفاضة ودعم صمود الشعب .
نستطيع – نحن الشعب الفلسطيني – أن نحرر الضفة الغربية إذا ما عرف كلٌ منّا دوره ومسؤولياته وقام بها بطريقة تكاملية بحيث تصب جميع الجهود باتجاه هدف التحرير . عندما نجعل منظمة التحرير بيتاً للكل الفلسطيني وقيادةً سياسية عُليا للمشروع الوطني الفلسطيني , وعنواناً لتعزيز الهوية والكيان الفلسطيني لا مشتتة لهما . وعندما نجعل السلطة الفلسطينية جزءاً من المشروع الوطني الفلسطيني وليست عبئاً عليه وداعمةً لصمود الشعب الفلسطيني وليست مُعيقة لمقاومته . وعندما نجعل الفصائل الفلسطينية تتبنى خطاباً سياسياً وحدوياً وتوافقياً بعيداً عن الخطاب الحزبي , وأن تنشغل بتطوير أداء الانتفاضة والمقاومة لتعظيم خسائر العدو بدلاً من الانشغال بالمناكفات السياسية المتبادلة . وعندما نلتف حول حملة المقاومة الشعبية لتواصل جهودها داخل وخارج فلسطين لتعميق مأزق الكيان الصهيوني بعد أن بدأت حملة المقاطعة الاقتصادية ومنع التطبيع معه والاستثمار فيه وفرض العقوبات عليه تأتي أُكلها .
نستطيع أن نحرر الضفة الغربية بالانتفاضة والمقاومة بدون أن نغرق في بحر المفاوضات اللانهائية حول دولة فلسطينية تحت الاحتلال وإلى جانب الاستيطان , لنضع أقدامنا على الطريق الصحيح نحو إضعاف المشروع الصهيوني وتقوّية المشروع الوطني عندما يعود وينكمش الكيان الصهيوني داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948 , ويفقد كل الأراضي التي احتلها عام 1967 , فيقد بذلك جزءاً كبيراً من مبررات وجوده وأسس بقائه , فهذا الاحتلال قابل للهزيمة , فقد هزمته المقاومة مرات عديدة في جنوب لبنان وقطاع غزة , وهذه المرة هزيمته في الضفة الغربية ممكنة إذا ما أردنا ذلك , رغم ما يُقال عن أهمية الضفة الغربية للكيان الصهيوني دينياً وأمنياً واستراتيجياً , فقد كانت غزة جزءاً من ( أرض اسرائيل التاريخية والتوراتية ) , وكان الارهابي شارون يعتبر مستوطنات غزة مثل تل ابيب من حيث الأهمية للكيان , ثم اعتبرها عبئاً أمنياً واقتصادياً عليه وتضر بالأمن القومي الإسرائيلي فانسحب منها بعد تفكيك المشروع الاستيطاني فيها تحت ضربات المقاومة .
وهذا ما يُمكن أن يحدث في الضفة الغربية عندما يصل قادة الكيان الصهيوني إلى نفس القناعة التي توّصل إليها شارون , ودورنا أن نعمل من خلال استراتيجية الانتفاضة والمقاومة إلى إيصالهم إلى هذه القناعة , فنجعل الاحتلال باهظ الثمن وعظيم التكلفة بشرياً واقتصادياً , وان نجعل الاستيطان مشروعاً فاشلاً بارتفاع تكلفته الأمنية والبشرية والاقتصادية , وأن نضع الكيان الصهيوني في مأزق أمني ووجودي عندما نقوّض الأساس الذي أُقيم عليه المشروع الصهيوني وهو الأمن الذي يضرب بدوره ركائز المشروع الصهيوني الأخرى وهما الهجرة والاستيطان بل وتصبح الهجرة عكسية في مرحلة متقدمة من الانتفاضة والمقاومة .
نستطيع أن نجبر الاحتلال والاستيطان على حزم حقائبهما والرحيل إذا ما تواصلت الانتفاضة وتصاعدت المقاومة حتى يصل المأزق الصهيوني إلى ذروته عندما يضطر إلى الاختيار بين البقاء في الضفة الغربية مع وجود خطر تفكيك المشروع الصهيوني برمته في فلسطين , أو الانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية مع الحفاظ على وجود دولة ( إسرائيل ) في فلسطين المحتلة عام 1948 إلى حين .