كثيرة هي الأحداث المأساوية في ذاكرة الأمة غير أن النقلة النوعية تحدث عندما تقرر الأمة تجاوز المأساة وحالة التباكي والنوستالجيا الشاعرية والرمزية الى الفعل التغيري الذي يرجعها إلى سكة العودة والرد واسترداد المسلوب.
كان من هذه الاحداث المفصلية ما يعرف «بوعد» بلفور عام ١٩١٧، وهو مصيبة تلتها مصائب أحدثتها القوى الاستعمارية في بلادنا لتبقي بصمة ووجودا لها في منطقة ظلت تنظر اليها على انها بلاد اللبن والعسل التوراتية وان خرجت بجيوشها منها ظاهريا! أوجدت طفرة سرطانية في المنطقة بقوة سلاح الانتداب ثم شرعنتها بقرار التقسيم من عصبة الأمم ثم حافظ على وجودها المجتمع الدولي والقوى العظمى التي تتشدق علينا بحقوق الانسان والقوانين بل تستحدث تهما لتجريم محاولاتنا في استرداد حقوقنا!
والدارس لبعض أسباب صدور هذا «الوعد» يرى أن الاقتصاد وحالة العوز المادي التي عانت منها بريطانيا في الحرب العالمية الأولى كان عاملا مساعدا لصدوره حيث استغلت عائلة روتشيلد الصهيونية سيطرتها على البنوك ومبادرتها لاقراض الحكومة للضغط عليها وضاعت فلسطين بسبب حفنة مال أخذها من لا يملك ليبيع لمن لا يستحق! ومن يومها والمال يشكل عصب تكوين السياسات وتوجيه القرارات في القضايا الانسانية المصيرية.
ويقل أثر المال والثروة عندنا ولو فاضت، فهو إما مرتهن لسيطرة الغرب يعطوننا قطرة من عين البئر او يمتلكه أغنياء فارغون من كل مضمون سوى الهوى، أما أصحاب المبادئ ومواطن الشارع فقد طبقت عليه الحكومات سياسة الافقار الممنهج حتى لا يجد وقتا لرفع عقيرته من طين الحاجة، كما أن ثقافة الزهد في غير محله وأدبيات التقشف تم اعتناقها ببلهٍ ونسيان ان الدين يُنصر بالمال قبل النفس وأنك تحتاج لمال قارون لتنشئ منظومة ومجتمع مقاومة وصمود!
مع كل مفاهيم النصر الالهي والمدد الرباني وضع الله لنا سنة تمكين دنيوي ليظهر فيها أثر عباده وجعل عدتها مادية ليخرج من قلب الانسان الأثرة والحرص على أعظم متع وزينة الدنيا فيحصل بذلك الانتصار المعنوي البشري على النفس قبل الانتصار المادي على أرض المعركة.
في هذه الحادثة الجلل في ٢-١١ قررت لجنة «مهندسون من أجل القدس وفلسطين» التابعة لنقابة المهندسين الاردنيين ان تطلق المرحلة الخامسة من حملتها المباركة «فلنشعل قناديل صمودها» لتكون لبنة في تغيير ثقافة التعامل مع المآسي وبناء ثقافة الانتصار بالاستثمار في الانسان وتمكينه من وطنه ليكون المدد لاحداث التغيير المؤمل والموعود، هذه الحملة التي تركز على اعمار بيوت البلدة القديمة المحيطة بالمسجد الاقصى إحاطة السوار بالمعصم ليكونوا رأس الحربة في حمايته من التقسيم والحفاظ على هويته الاسلامية والعربية.
والمتابع لانجازات الحملة يرى عظم ما حققته من تعمير وترميم وتأهيل ثبت المقدسيين في بيوتهم بل استحدث مساحات جديدة يمكن السكن فيها وهو انجاز لم تقم به الحكومات ولا الهيئات العربية مجتمعة! الا أن هذه اللجنة المعتمدة على الجهود والدعم الشعبي تواجه أعدادا عظيمة من البيوت تحتاج الترميم العاجل يفوق عددها ٣٠٠ وتحتاج لخمسة وسبعين عاما من الاعمار على هذه الوتيرة البطيئة لعدم توفر المال الشعبي مع الغياب التام لاي توجه عربي او اسلامي صادق ورسمي نحو حماية القدس والاقصى!
إن أقل جمعية صهيونية أهلية بحسب تقرير مؤسسة القدس تمول تهويد حي سلوان ب ١٤ مليون دولار وكل مواطن صهيوني حول العالم يدعم الكيان الصهيوني بدولار في أقله ليبقي على الصلة الوجدانية بما يزعمون أنه حقهم وانه لعجيب أن يكون إنفاق أهل الضلال في الدفاع عن ضلالهم أكثر من إنفاق أهل الهدى في التمكين لهداهم وحقهم!
إنه لمن حسن التوفيق أن يكون المكتب المشرف على الاعمار مكتبا يملكه مهندس من اخواننا النصارى هو المهندس سيمون كوبار الذي يقوم بجهد جبار ليلتف على حكومة الاحتلال مذكرا بإرث جده النصراني مهندس قبة الصخرة يزيد بن سلام الذي كلفه عبد الملك بن مروان ورجاء بن حيوة ببنائها، فلما بقي من المال المخصص لها مائة الف درهم ذهبي بعث لهما به كهدية على جهودهما فرداه قائلين: «كان حري بنا ان نصرف حلي نسائنا فضلا عن اموالنا لو احتاج الامر، فاصرفها في أحب الاشياء اليك» فأمر بها الخليفة فصهرت وافرغت على القبة والابواب! سيمون كوبار ومن قبله جده ابن سلام وكل النصارى الشرفاء يؤكد قولهم وفعلهم ان القدس قضية جامعة لكل صاحب مبدأ.
ان هذه الحملة خصوصا في ظل الاستهداف الخطير واطباق فك الكماشة الذي يتعرض له المسجد الاقصى لها خصوصية مختلفة فهي استفتاء شعبي غير رسمي لمكانة هذه القضية الايمانية من نفوس اهل الاردن خصوصا ونفوس المسلمين عموما حيثما وجد مثل هذا العمل والكل يرقبها من الحكومات وحتى الاعداء ليسمعوا صدى صرخة الاقصى وشهدائه في قلوب الناس، فهل نرد أمر رسولنا صل الله عليه وسلم وهو ينهض من جراحاته في أُحد ومن بين اشلاء الشهداء ولا يرضى ان ينتشي المشركون بنصرهم المؤقت فيقول للمسلمين «أجيبوهم».
اننا في الموقف ذاته وان لم نتحرك الآن فقد نُثبط الى الأبد فهل يكون جوابنا بالفعل والعمل بأمر رسولنا لبني صهيون أن الأقصى لن يقسم وأن أهله باقون ما بقيت حياة على الأرض ومن بعدها ومن هناك يفترق الناس إما الى جنة او نار؟!
هذا زمان الإجابة والفعل فلا تدعِ الإيمان والحرص والانتماء ان بقيت صامتا قاعدا!