منذ أن قامت إسرائيل بتشييد جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، نشط الحديث عند بعض مؤسسات حقوق الإنسان عن سياسة أبارتهايد تمارسها إسرائيل. ساهم في تغذية هذه الفرضية تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بدءا بتقارير المقرر الخاص جون دوجارد والذي انتهت ولايته عام 2007، مرورا بتقارير البروفسور الأمريكي ريتشارد فولك والتي كانت أكثر صراحة في ما يخص هذا الشأن. يشكك البعض في جدوى توصيف السياسة الإسرائيلية ب"ألابابرتهايد" مدعيا أن هذا الوصف ملتصق بشكل كبير بسياق تاريخي محدد مختلف عن سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لا شك انه من الصعب الحديث عن الأبارتهايد دون الإشارة إلى جنوب أفريقيا، فهذه الكلمة مشحونة بصور هيمنة الأقلية البيضاء على السكان الأصلين ذوي البشرة السوداء من سكان جنوب إفريقيا، فكلمة ابارتهايد والتي تعني "الانفصال" باللغة الأفريكانية Afrikaner ولدت وكسبت دلالتها من السياق الاستعماري لجنوب إفريقيا، إلا أن هذه الكلمة اليوم تحمل دلالة قانونية تقنية محددة تسمح بإمكانية توصيف ممارسات دولة ما بالأبارتهايد عند اجتماع عددا من الظروف الموضوعية التي يوجبها التعريف القانوني لهذا المفهوم. سنعمل في هذه المقال على تبيان بعض جوانب مفهوم الأبارتهايد في السياق الجنوب إفريقي وعلى قراءة الظروف الموضوعية التي حثت تقارير مجلس حقوق الإنسان على تكييف الممارسات الإسرائيلية ب"الأبارتهايد".
ولادة المفهوم في جنوب أفريقيا: دوافع استعمارية ودينية
شكلت المطامع الاستعمارية المتعارضة للمجتمع الأبيض ذاته في جنوب إفريقيا احد أهم أسباب الخلاف بين مكوناته، حيث دارت حروب ومواجهات عديدة في أكثر من مناسبة بين المستعمر من أصلٍ هولندي Boers من جهة والمستعمر من أصل انجليزيAnglos من جهة أخرى. كانت أكثر هذه الحروب ضراوة تلك التي دارت رحاها بين الطرفين في الفترة ما بين عامي 1899ـ1902 والتي نتج عنها تشتت شمل أفراد المجتمع الأبيض من أصل هولندي "البويرس" وضياع مصدر دخلهم الذي كان قائم بشكل أساسي على الزراعة، مما اضطرهم بعدها لمنافسة السكان السود في أعمال المناجم والصناعة وإبعادهم عن الحياة السياسية لنحو خمسة عقود .
تُظهر الدراسات التاريخية أن المستعمر الأوروبي على اختلاف مشاربه قد مارس سياسة "الهيمنة" و"الاضطهاد" ضد سكان البلاد الأصليين منذ أن حطت قواربه على شواطئ جنوب القارة السوداء في أواخر القرن السابع عشر واستيطانه هناك بشكل مستم ، غير أن الكتابات القانونية وتقارير الأمم المتحدة تعزى بداية سياسة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا إلى وصول الحزب الوطني الجنوب إفريقي إلى السلطة في عام 1948 والذي مثل الأداُة السياسية الأساسية للسكان البيض من أصل هولندي، وذلك بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية التي لم يكن مَسموحاً للسكان الأصليين المشاركة فيها.
مع بداية سنوات الأربعينات من القرن الماضي تبلور عند الأقلية البيضاء تيارين رئيسين حول السياسة الواجبة إتباعُها مع السكانِ الأصليين: التيار الأول مثل موقف السكان البيض من أصلٍ انجليزي والذي يشكك في جدوى سياسة الانفصال الشامل بين السود والبيض، وتيار ثان مثّل موقف السكان البيض من أصل هولنديBoers والذي دافع عن سياسة الأبارتهايد وأهميتها في فرض سيطرة البيض على البلاد ومواردها، خاصة أمام التخوف من الأغلبية الديموغرافية التي تمايز بها السكان الأصليين .
إذا كانت المطامع الكولونيالية شكلت أهم ملامح التشابه بين مكوني المجتمع الأبيض في جنوب إفريقيا, فأن اختلاف الثقافة والمرجعية الدينية عمل على إظهار أوجه الاختلاف بينهما. استند البويرس في تبرير الأبارتهايد على المذهب الكالفيني للكنيسة المتجددة الهولندية Nededuitse Gereformeer de Kerke, والذي شكل مسوغا دينيا لهم باعتبار أنفسهم شعب الله المختار الذي وجد أرضه الموعودة، محاولين أيضا الاستشهاد على ذلك ببعض النصوص التي جاءت في العهد القديم . في حين لم يستطع الأنجلو ببراغماتيتهم النابعة من ثقافتهم الرأسمالية ـوالذين عارضوا سياسة الأبارتهايدـ، أن يدركوا هذا البعد الديني عند البويرس، بل رأوا انه من الجنون التضحية بالإنتاجية والفائدة من أجل عالم خرافي من الإلهة .
إذن، من الممكن الاستنتاج أن الظرف الاستعماري لجنوب أفريقيا عموماً، والفوقية التي تعامل بها البويرس مع السكان الأصليين خصوصاً ـوالتي استندت على أساس ديني ـ، شكلا أهم المحركات الأساسية لسياسة الأبارتهايد والتي استمرت حتى عام 1990.
تعريف الأبارتهايد بحسب القانون الدولي :
رغم أن كلمة أبارتهايد نشأت وكسبت دلالتها من سياقها التاريخي المنفرد في جنوب إفريقيا، إلا أن لهذه الكلمة اليوم دلالة قانونية تقنية تسمح بإمكانية توصيف سياسة دولة ما بسياسة أبارتهايد، وذلك إذا اجتمعت عدة عوامل يقتضيها التعريف القانوني لهذه السياسة.
درج بعض القانونيين العرب على تسمية الأبارتهايد ب" جريمة الفصل العنصري". فهذه التسمية نجدها أيضا في النسخة العربية من معاهدة الأمم المتحدة بشأن الأبارتهايد الصادرة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 30 تشرين الثاني 1973 . التعريف القانوني للأبارتهايد نجده في المادة 2 من هذه المعاهدة والذي يعرف الأبارتهايد كما يلي : [ إن عبارة "جريمة الفصل العنصري"، التي تشمل ما يماثل ذلك من سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين الممارسة في الجنوب الأفريقي، تنطبق، لأغراض هذه الاتفاقية، على الأفعال الآتية، المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر على أية فئة عنصرية أخرى واضطهادها بصورة منتظمة:]. تواصل المادة 2 تعداد ماهية الأعمال اللاإنسانية التي من الممكن ارتكابها في ظل سياسة الأبارتهايد، نذكر منها على سبيل المثال: أعمال القتل تجاه أفراد الفئة المضطهدة، إخضاعهم لأذى بدني أو عقلي، تعرض أفراد هذه الفئة للتعذيب والمعاملة القاسية والسجن، معاقبة الأشخاص الذين يناضلون ضد سياسة الأبارتهايد، اتخاذ التدابر التشريعية وغيرها التي تحول دون تمتع أفراد الفئات المضطهدة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
نلاحظ أن هذا النص يورد سياسة الفصل العنصري التي مارسها المستعمر في جنوب إفريقيا كمثال على سياسة الأبارتهايد، مما يبعث على الاعتقاد عند البعض بأن هذه المعاهدة جاءت كرد فعل على السياسة التي كانت قائمة في جنوب إفريقيا في حقبة الأبارتهايد. قد يكون هذا الرأي صحيحا جزئيا كما يراه أستاذ القانون الدولي الجنوب إفريقي جون دوجارد، لكن لا يعني بأي حال من الأحوال بعدم إمكانية تطبيق هذه المعاهدة على مناطق أخرى من العالم.
ليس بعيدا عن ذلك، هناك نصوصا حديثة نسبيا في القانون الدولي أكدت الطلاق التام ما بين جريمة الأبارتهايد كجريمة ضد الإنسانية والسياق التاريخي الذي نشأت فيه، فهذا حال المادة 7 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية والذي تم التوقيع عليه في عام 1998 ـ أي 8 سنوات بعد انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقياـ والتي أكدت توصيف الأبارتهايد ك "جريمة ضد الإنسانية" دون أدنى إشارة إلى النظام الذي كان قائم في جنوب إفريقيا.
يعرف ميثاق المحكمة الجنائية الدولية جريمة " الفصل العنصري" على أنها الأفعال اللاإنسانية والتي [ ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أيه جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام] . تجدر الإشارة إنه يجب فهم مصطلح "جماعة عرقية" بدلالته الواسعة التي يعطيها القانون الدولي والتي تضم أيضا الجماعات, الأثينية، الوطنية، الدينية.
بالنظر للتعريفين السابقين لجريمة الأبارتهايد ولتجربة التمييز العنصري في جنوب أفريقا, يمكننا تحديد المقومات الأساسية للسياسة الأبارتهايد بنقطتين رئيستين : سياسة" السيطرة أو الهيمنة المنظمة" من جهة, وسياسة "الاضطهاد الممنهج" من جهة أخرى.
من الصعب أن تجد في الدراسات التاريخية عن جنوب إفريقيا أن الأنجلو الذين عارضوا مشروع الأبارتهايد نظريا في البداية قبل تبنيه رسميا, قد واصلوا معارضتهم الفعلية بشكل جدي بعد تبنيه كسياسة للدولة بعد وصول الحزب الوطني للسلطة عام 1948. إن المستفيد من سياسة الأبارتهايد لم يكن الحزب الوطني ومواليه فقط, بل المجتمع الأبيض الجنوب إفريقي برمته. يبدو أن ممارسات الأبارتهايد في جنوب إفريقيا قد ألهمت التعاريف القانونية السابقة ذكرها.
إن الغاية من إتباع سياسة الأبارتهايد هي "الهيمنة" والتي تساهم في توفير مستوى حياة جيد للطبقة المهيمنة وسيطرتها سياسيا ورخاءها الاقتصادي , وهو الركن الأساسي الأول من التعريف القانوني للابارتهايد، في حين أن "اضطهاد" فئة أخرى من البشر هو وسلية الأبارتهايد الذي يضمن تلك "الهيمنة". يضم مصطلح "الاضطهاد" مختلف الأفعال المخالفة لحقوق الإنسان والممارسة ضد الفئة المضطَهدة, ويشكل الركن الأساسي الثاني من التعريف القانوني للأبارتهايد. انطلاقا من هذين العنصرين سنعمل على قراءة ممارسات الأبارتهايد التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين المحتلة، معتمدين بشكل كبير على ما جاء في تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للعام 2014 والذي أعده البروفسور الأمريكي ريتشارد فولك، والذي يقر بشكل صريح بوجود سياسة أبارتهايد تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967.
سياسة هيمنة ممنهجة تمارسها إسرائيل لصالح اليهود الإسرائيليين:
هناك بعض أوجه التشابه التي تجدر الإشارة لها بداية بين اليهود الإسرائيليين من جهة، والبيض من أصل هولندي الذين عاشوا في جنوب أفريقيا وأسسوا لنظام الأبارتهايد من جهة ثانية. في حين اعتبر البويرس أنفسهم ضحايا الاضطهاد الذي تعرضوا له على يد الأنجلو في جنوب إفريقيا فقد اعتبر اليهود الإسرائيليين أنفسهم هم أيضا ضحايا الاضطهاد والإبادة الجماعية في أوروبا، شكلت هذه المعاناة المشتركة لكلا الطرفين حافزا للبحث عن سند نظري ديني يقدمهما ك"أمة الرب المختارة"، مما جعل مشروعهما يتمايزان ب"ردة الفعل" و"السلبية". ليس من باب الصدفة أن نجد بان ضحايا هذين المشروعين هما السكان الأصليين في جنوب إفريقيا والسكان الأصليين في فلسطين المحتلة، قلقد انتقلت العدوى الكولونيالية الغربية في ذلك الوقت إلى هذه الفئات المضطهدة هي أيضا على يد المجتمعات الغربية التي عاشت فيها.
إن استمرار سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لمدة أربعة عقود أو المشروع الصهيوني في فلسطيني المحتلة طوال هذه المدة، كاد أن يكون مستحيلا دون وجود مكاسب مادية يدرها على فئات الطبقات المهيمنة. تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن متوسط دخل الفرد الأبيض في جنوب إفريقيا مثل نسبة 15 إلى 1 من دخل الفرد الأسود في الصناعات الإستخراجية و نسبة 5 إلى 1 في الصناعة التحويلية . في فلسطين المحتلة، هناك حالة تشابه مع هذا الظرف، في حين يتمتع اليهود في المستوطنات وفي المدن الإسرائيلية بمستوى عيش مقارب لمستوى عيش الفرد في بلدان أوروبا الغربية, بقي الفلسطيني يعاني الفقر وشظف العيش في المخيمات والمنافي وعلى أرضه الواقعة تحت الاحتلال والأبارتهايد. يبدو من النظرة الأولى بأن هناك هفوة كبيرة بين مستوى عيش الفرد الذي يعيش في إسرائيل ومثيله في فلسطين المحتلة.
لم يحدد النص القانوني طبيعة "الهيمنة" أو "السيطرة" المُمَنهَجة و الممارسة في إطار نظام الابارتهايد. فهذه الهيمنة ليس بالضرورة أن تكون اقتصادية. نظريا، قد تكون الهيمنة ديموغرافية،جغرافية، ثقافية، دينية أو سياسية. غير أن واقع الأبارتهايد يفرض نفسه بطريقة مختلفة. في ظل وجود إطار إيديولوجي يبرر هذه السياسة، بالإضافة لرؤية جمعية تتخذ التمييز العنصري منهجا, من الواقعي ظهور هذه الهيمنة في حقول متعددة من حياة المجتمع الذي يرزح تحت نير سياسة الفصل العنصري وليس حصره فقط في مجال محدد.
تشير فتوى محكمة العدل الدولية في ما يتعلق بالجدار لعام 2004 بأن المنطقة المغلقة التي أنشأتها إسرائيل بفعل الجدار المبني على الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967 تضم حوالي من المستوطنات المقامة على أراضي 67 . في حين يتساءل في هذا الصدد مقرر حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية البروفسور الأمريكي ريتشارد فولك في تقريره الصادر لحساب مجلس حقوق الإنسان عام 2014 : "إذا كانت إسرائيل تدعي أنها بنت الجدار لأسباب أمنية فكيف تواصل بناء المستعمرات في المناطق الفلسطينية وترسل مستوطنيها للإقامة عند مصدر الخطر"؟ يأخذ مقرر حقوق الإنسان القدس الشرقية كعينة لإظهار طبيعة السياسة الإسرائيلية المتبعة في الضفة الغربية فيشير بأن : " إسرائيل تعمل على حصر الوجود الفلسطيني من اجل الحفاظ على أغلبية يهودية في القدس الشرقية, فيجري تطبيق سياسة معترف فيها من قبل بلدية القدس، بالمحافظة على توازن ديموغرافي في المدينة بنسبة 70 بالمائة لليهود مقابل 30 بالمائة للفلسطينيين ". تقرير مجلس حقوق الإنسان يشير أيضاَ بأن هذه السياسة الإسرائيلية غير ممارسة في القدس حصرا وإنما في الضفة الغربية بشكل عام. من المناسب التذكير هنا، أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أدان منذ أكثر من 40 عاما في أكثر من مناسبة محاولة فرض إسرائيل هيمنة ديموغرافية في الأراضي المحتلة عام 1967 .
لتركيب الصورة العامة لسياسة الأبارتهايد التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، من الضروري ربط انتهاكات حقوق الإنسان المختلفة في فلسطين المحتلة مع الهدف المرجو من ذلك وهو: إبقاء حالة من الهيمنة والسيطرة لليهود الإسرائيليين. كذلك فعل مقرر حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية عندما ربط ما بين العدد المرتفع في القتلى الفلسطينيين والسياسة الإسرائيلية المتبعة فيما يتعلق ب"الهيمنة الديموغرافية" .
سياسة اضطهاد ممنهج تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين
نقصد بمصطلح "الاضطهاد الممنهج" مجموع خروق حقوق الإنسان والتي تمارس بشكل ممنهج مثل: القتل، الاعتقال، هدم المنازل، وضع الحواجز.
بالنظر إلى النصوص القانونية من جهة, ولتجربة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا من جهة أخرى، من الممكن تحديد عنصريين ضروريين لتأسيس ما اصطلح تسميته ب"الاضطهاد الممنهج" : أولا: "العزل" أو "الانفصال" وتفاوت حقوق الأفراد بناء على هذا الانفصال ، ثانيا : خلق مناخ من الرعب وهو ما يسمى باللاتينية jus terrendi.
سنحاول إلقاء الضوء على نظام الاضطهاد الممارس من قبل إسرائيل في فلسطين المحتلة 67 من خلال تقرير مجلس حقوق الإنسان لعام 2014، بالنظر لهذين العنصريين الأساسيين اللذان قمنا بعزلهما.
1. سياسة الانفصال والتمييز العنصري
لا يوجد هناك في مقتضيات النص القانوني ما يحدد بشكل دقيق طبيعة سياسة العزل، فأهمية هذه السياسة على الصعيد النظري تكمن في تحديد الأفراد الذين ينتمون للطبقة المهيمنة من جهة, وهؤلاء الذين يتم تصنيفهم بين الطبقات المضطًهدة من جهة أخرى. على الرغم من أن سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في حقبة الأبارتهايد قامت على إنشاء مناطق خاصة للسكان الأصليين Homelands، إلا أن الانفصال التام بين السود والبيض لم يتم تحقيقه فعليا. فهناك بعض المناطق مثل كاب تاون ظل السكان الأصليين متواجدين فيها بنسبة كبيرة، وذلك رغم عمليات مصادرة الأراضي والبيوت وترحيل السكان السود خارج المدن لم تتوقف.
بالرغم من أن جدار الفصل العنصري يعتبر احد أهم معالم الانفصال إلا انه من غير الصحيح اختزال سياسة العزل الإسرائيلية فيه، بل من المنطقي التعامل مع السياسة الإسرائيلية تجاه العرب الفلسطينيين بشموليتها. إن حصار الفلسطينيين في قطاع غزة مثلا يعزلهم من الاختلاط باليهود من جهةـ ويحول أيضا دون لم شملهم مع اقرأنهم في فلسطين 1948 وفي الضفة الغربية والقدس من جهة ثانية. أما عن السياسة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة عام 1948 والقدس, فيتم عزل الفلسطينيين في أحياء خاصة وتحاول الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للحيلولة دون اختلاطهم باليهود. هذا العزل الجغرافي ينتج عنه الازدواجية في تطبيق القوانين الإسرائيلية وبالتالي الازدواجية في الحصول على الحقوق السياسية والمدنية, والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
تفيد تقارير دورية للجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بأن المستوطنين اليهود الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 يتمتعون بكامل حقوقهم في هذه المجالات في حين أن الفلسطيني لا يتمتع بها. حاولت إسرائيل التملص من مسؤوليتاها تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون في هذه المناطق أمام محكمة العدل الدولية في فتواها بشأن الجدار عام 2004، إلا أن المحكمة أكدت مسؤولية إسرائيل تجاه الفلسطينيين في هذه المجالات، كما أكدت أيضا تطبيق العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
مسؤولية إسرائيل هذه تجاه الفلسطينيين لا تنطبق فقط على مناطق C وإنما على مناطق A و B وعلى كامل تراب فلسطين المحتلة منذ عام 1948 وذلك بالنظر لمعيار "التحكم الكلي" الذي أكدته محكمة العدل الدولية منذ عام 1986 ، باعتبار أن إسرائيل هي المسيطر الفعلي على كافة الأراضي المحتلة بما في ذلك المناطق التي تتواجد فيها السلطة الفلسطينية. دولة الاحتلال هي من يتحكم بحركة الفلسطينيين وبالحدود، وتمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية من إقامة مطار أو ميناء في غزة. بالإضافة لسياستها العنصرية التي تؤثر على تفاصيل حياة الفلسطينيين في الأرض المحتلة.
يمكننا إجمال ما سبق بالتالي: ليس الانفصال بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين هدفا في حد ذاته، فأهمية سياسة الفصل العنصري تكمن في تحديد الأفراد الذي يتمتعون بكامل حقوقهم وهؤلاء هم الطبقة المهيمنة من جهة، والأفراد المضطهدين والمحرومين من ابسط حقوقهم من جهة ثانية. ليس بالضرورة أن يكون حرمان أفراد الفئة المضطهدة من حقوقهم بنفس الدرجة في كل المناطق التي يتواجدوا فيها. قد تساوم دولة الأبارتهايد على ذلك وتمنح بعض التسهيلات بحسب الظرف المكاني والزماني بما تقتضيه مصلحة استدامة نظام الهيمنة بشموليته.
فلسطينيا، إذا كانت إسرائيل قد أغلقت أبواب الماضي على الفلسطينيين بعد سلب الأرض الفلسطينية الناتج عن سياسة "التطهير العرقي" التي قادتها العصابات الصهيونية عام 1948، فقد عملت فيما بعد على إغلاق أبواب المستقبل أيضا على الفلسطيني بأتباع سياسة الأبارتهايد، وذلك بمحاولة إدامة الهيمنة الإسرائيلية وإبقاء الفلسطيني مضطهدا.
2. نظام من الرعب الممنهج تمارسه اسرائيل Jus terrendi
يضم هذا التوصيف كل الأعمال الوحشية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة مثل : أعمال القتل, اعتقال المعارضين لنظام الأبارتهايد الأسرائيلي، إطلاق النار على المتظاهرين، اقتحام المنازل ليلا وترهيب السكان, اعتقال الأطفال، الاغتيالات, هدم المنازل، إتباع سياسة العقاب الجماعي، مصادرة الأراضي... للحديث عن وجود نظام رعب ممنهج في إطار سياسة ابارتهايد، من الواجب التعامل مع هذه الأحداث ككل وليس كحوادث منفصلة الواحدة عن الأخرى. أيضا من الواجب ربطها بسياسة الهيمنة التي تسعى لإبقاء اليهود الإسرائيليين في موقع سيطرة أمام العرب الفلسطينيين.
تثبت تحقيقات لجنة الحقيقة والمصالحة التي تم إنشاءها بعد نهاية نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا بأن كل مؤسسات الدولة قد شاركت بشكل أو بأخر بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان بما في ذلك : الكنائس، الإعلام، المستشارون القانونيون، الأطباء، المؤسسات التعليمية ورجال الأعمال. تضيف اللجنة بأن هذه المؤسسات قد شاركت في هذه الأعمال ليس خوفا من الدولة أو بدافع الانتقام وإنما لأن الجميع كان " مستفيداَ من وضيعة الأبارتهايد", ولهذا فلم يحاولوا معارضة هذا النظام .
عندما يهم احدهم بالحديث عن بشاعة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا فأنه يتطرق لمثال مذبحة شاربفييلsharpeville او لانجا langa، في حين كان ضحايا المذبحة الأولى 69 شخصا، فأن عدد ضحايا الثانية وصل لمائتي شخص أو مذبحة عام 1976 التي راح ضحيتها بضع مئات أيضا. يلحظ بروفسور القانون الدولي الجنوب أفريقي جون دوجارد ومقرر حقوق الأنسان في فلسطين حتى عام 2007 بأن بعض الممارسات التي تمارسها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية مثل الاغتيالات لم يتم ممارستها في جنوب إفريقيا في وقت الأبارتهايد . إذا نظرنا إلى السياسة التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة سنجد أن القتل أو الإعدامات الميدانية والاعتقال والتنكيل بالفلسطينيين هي ممارسات يومية للاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين، بل أن الحرب الأخيرة على قطاع غزة خلفت ما يقارب الألفي شهيد.
نعم إسرائيل دولة ابارتهايد لكن لا احد يستطع أن يعلن هذه الحقيقة إلا الفلسطينيين أنفسهم، مؤسسات وفصائل، وجيل يتعطش للحرية ويقود الانتفاضة الحالية، هذا الخيار ليس بسهل وإنما يتطلب معركة طويلة من النضال على كافة المستويات, محليا ودوليا. إذا ما اختار الفلسطينيين إعلان إسرائيل دولة ابارتهايد فهذا يتطلب إنشاء معجم جديد للصراع قوامه: هيمنة، اضطهاد، فصل عنصري، نضال، مقاطعة، إنهاء الاستعمار.