ينظر البعض إلى انتفاضة القدس الثانية، على أنها انتفاضة الثورة والتحرير، والاستقلال والسيادة، والعودة والدولة، وأنها خاتمة النضال، ونهاية الأحزان، وبداية مواسم الأفراح، وأنها بقدر الوجع والألم، والحزن والسقم، والقتل والاعتقال، والتدمير والتخريب، ستكون نتيجتها سعادةٌ وفرح، ونشوةٌ وابتهاجٌ، وستتلوها احتفالاتٌ ومهرجانات، وأفراحٌ وليالٍ ملاح، وأن ليلها سينجلي عن صبحٍ أبلجٍ، وسيبدد نور النهار ظلمات الاحتلال وليله الأسود الحالك، وسيفرح بعدها ذوو الشهداء، وسيرضى الجرحى والمرابطون، والأهل في الوطن والشتات، إذ تحققت أمانيهم، ونالوا ما كان يطمحون إليه ويأملون فيه.
لعل هؤلاء يظلمون الانتفاضة، ويحملونها أكثر مما تحتمل، ويتوقعون منها أنها ستحقق ما عجز عنه الأولون، وما تأخر عن إنجازه السابقون، وأنها ستكون أقوى من الانتفاضات التي سبقتها، والمقاومة التي عبدت لها الطريق، واستخدمت في مسيرتها الرصاصة والقنبلة، والصاروخ والقذيفة، وكان للاستشهاديين فيها دورٌ كبيرٌ وأثرٌ فعال، وسقط خلالها آلاف الشهداء والجرحى، واعتقل آلافٌ أمثالهم وأكثر، ومع ذلك فما حققت الكثير مما نأمل من هذه الانتفاضة المقدسية المباركة الثالثة، وإن كانت تخيف المحتل، وتربك حكومته، وتنشر الذعر والهلع خوفاً من الطعن بين سكانه.
إنهم يثقلون كاهل الفلسطينيين في الوطن، ويأملون منهم أكثر مما يتوقعون بأنفسهم أو يستطيعون بقدراتهم، ولعلهم بما يأملون منهم يكبرون حجر الانتفاضة أكثر مما ينبغي، وينسون أنها انتفاضة سكينٍ لا أكثر، وأن كل طعنةٍ تكلف الشعب شهيداً أو أكثر، ويُكلفُ ذووه من بعده الكثير، إذ يُسجنون ويُعتقلون، وتدمر بيوتهم وتهدم، وتسحب هوياتهم ويطردون من القدس إن كانوا من سكانها، وقد تضيق عليهم سلطات الاحتلال أكثر، ليكونوا درساً لغيرهم وعبرةً لسواهم، لئلا يمضي على دربهم أحد، أو يقلدهم آخر.
نحن لا نحبط أحداً، ولا نقتل آملاً، ولا نسبح عكس التيار، ولا نتحدث بلسان غيرنا ونعبر عن أماني سوانا، بل نتحدث بلسان الشعب في الوطن وأهلنا في الميدان، بلغةٍ واضحةٍ رصينةٍ موزونة، ونريد أن نكون واقعيين ومنطقيين، فلا نخطئ الحساب، ولا نسيئ التقدير، ولا نرفع السقف عالياً ثم نعجز، أو نضخم الأهداف ثم نضعف عن تحقيقها، أو لا نستطيع الوصول إليها، فنحبط أنفسنا والأمة، ونضر بالشعب ونلحق بالقضية الأذى، ونخسر ما ضحينا، ونفقد الشهداء وما قدمنا.
الفلسطينيون في الوطن إذ يشكرون الأمة العربية والإسلامية على مواقفها وتضامنها، وتأييدها ومساندتها، فإنهم يأملون منهم أن يفكروا بعقل من يقيم على الأرض، ويسكن في الوطن، ويقاتل في الميدان، ويعاني ويقاسي، ويجد صعوبةً في الحركة والانتقال، وحمل السكين والسلاح، ويواجه بصدره العاري الخطر، ويتحدى بإرادته ويقينه جيش الاحتلال وآلة قتله الهمجية، وألا يظنوا أن المواجهة مع الاحتلال لعبةٌ سهلة، ومعركةٌ بسيطةٌ، فالعدو الصهيوني خبيثٌ ماكر، ويعرف ماذا يريد منا وماذا يخطط لنا، وهو القادر بسلاحه وعتاده، وقدراته وإمكانياته على أن يتقدم ويتفوق، أو هكذا يتوقع ويأمل.
ولعل الفلسطينيين في الوطن في هذا على حقٍ تام، فلا يشكك فيهم أحد، ولا يكابر عليهم آخر، رغم علمهم بصدق المتضامنين، وإخلاص المحبين، وأمل ورجاء المناصرين، ولكن صدق الأولون عندما قالوا أن أهل مكة أدرى بشعابها، فإن أهل فلسطين أدرى بعدوهم، وأعلم بمواجهته، وأقدر من غيرهم على مقارعته، في الوقت الذي يخاطبون الأمة كلها ويأملون منها أن تصدق قولهم، وأن تؤيد فعلهم، وأن تساندهم في انتفاضتهم التي يعرفون أهدافها، ويدركون أبعادها، ويعلمون يقيناً أنها ليست إلا خطوة كبيرة على طريق النصر والتحرير، وأنه سيكون لها ما بعدها يقيناً.
اعتاد الأسرى والمعتقلون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أن يخوضوا إضراباتٍ عن الطعام، أو يمتنعوا عن الزيارة أو غيرها، ويضعون قائمة شروطٍ وعدة مطالب، تتعلق أغلبها بتحسين شروط اعتقالهم، واحترام حقوقهم، وتمكينهم من الاستفادة مما نص عليه القانون وسمحت به الاتفاقيات، ولكنهم لا يطالبون بالإفراج عنهم وإطلاق سراحهم، رغم أن هذا هو الأمل والغاية، وهو أسمى المطالب وأنبل الأهداف، لكن كونهم يعرفون أن هذا الهدف يستحيل على العدو تنفيذه إلا بقهر عمليات التبادل، فإنهم لا يحبطون أنفسهم ويضعون هذا الهدف الكبير ضمن سلسلة أهدافهم المنطقية والمعقولة، والممكنة التنفيذ والسهلة الإنجاز.
وعليه فإن انتفاضة القدس وفلسطين الثانية قادرةٌ بإذن الله، بتضحيات أبنائها وصمود شعبها، وإرادة المرابطين والمرابطات، والثابتين والثابتات، على أن تفرض على سلطات الاحتلال العودة بالأوضاع في المسجد الأقصى ومدينة القدس إلى ما قبل العام 2000، عندما كانت القدس مفتوحة أمام أهلها، والأقصى مشرعٌ للمصلين الفلسطينيين، والزائرين المسلمين، فلا يزاحمهم فيه أحد، ولا تحد من أعدادهم سلطة، ولا يفرض الاحتلال عليهم شروطاً، ولا يحاول تغيير تركيبة السكان فيها، وطرد العرب منها.
كما أن انتفاضة القدس قادرةٌ بإذن الله على منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة الاستيطان، ومصادرة الأراضي، وطرد السكان، وهدم البيوت والمنازل، وإبعاد المواطنين والأهل، ومداهمة البلدات والقرى، والتجوال في المدن ووضع الحواجز على الطرقات، وقادرةٌ على رفع الحصار عن قطاع غزة، وإكراه العدو على القبول بمشاريع التخفيف عن سكانه، وتسهيل حياته، وبناء ميناءٍ ومطارٍ له، يرتبط من خلالها بالعالم، ويتحرر بهما من قيود الجوار وشروط الأقوياء.
وهي قادرةٌ بإذن الله ما صمدت وبقيت، وما واصل أبناؤها المقاومة والمواجهة، وما وقف إلى جانبهم إخوانهم وأشقاؤهم العرب والمسلمون، على المطالبة بالإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وتحريرهم من قيدهم وسجنهم، وفي مقدمتهم قدامى الأسرى والمعتقلين، والأسرى المرضى والأطفال والنساء والمسنين، أو تحسين شروط اعتقالهم، ومنع الاعتقال الإداري التعسفي، والتعذيب الوحشي في السجون.
تلك هي بعض الأهداف التي يتطلع إليها شعبنا من انتفاضته، والتي يسعى لتحقيقها بنضاله وتضحياته، ولعله سيمضي حتى يحققها أو بعضها، وسيرغم قادة الكيان وحكومته على القبول والإذعان، وله في انتفاضتيه السابقتين خير أسوةٍ ومثال، فالأولى أجبرته على الاعتراف بالشعب، والثانية أكرهته على الانسحاب من غزة، أما الثالثة فستكون نتيجتها بإذن الله أكبر مما نأمل، وأشد ألما مما يتوقع العدو ويخشى.