يشهد التاريخ بأن أغبى إجراء يمكن أن تُقدم عليه قوةُ احتلال في أي مكان هو أن تجرّد تياراً فاعلاً من جميع مكتسباته ومجالات نشاطه العلنية، بمعنى أن توصله لمرحلة لا يعود فيها يخشى خسارة شيء مادي كالمؤسسات والمقرات والجمعيات وغير ذلك من إنشاءات يمارس من خلالها نشاطاً علنياً ومنضبطاً بسقف وقوانين معيّنة في محاولة لتجنّب الحظر أو الملاحقة القاسية.
وهذا ما فعله الاحتلال الصهيوني يوم أمس مع الحركة الإسلامية في الداخل المحتل، والتي يقودها شيخ الأقصى رائد صلاح، حيث داهم جميع مقرّاتها الدعوية والإعلامية والإغاثية والرياضية وغيرها، وأعلنها تنظيماً محظوراً، واستدعى رئيسها للتحقيق، وهو إجراء من المتوقّع ألا يقف عند هذا الحد بل أن يتوسّع نحو مزيد من أشكال الملاحقة لنشاطها والاعتقال لرموزها. رغم أن التضييق على الحركة الإسلامية واعتقال بعض قادتها ليس جديداً على سياسات الاحتلال المتّبعة معها منذ سنوات، لكنه فيما مضى كان يفضّل تركها تمارس نشاطها العام شأنها شأن بقية الحركات والأحزاب العربية في الداخل، ما دامت لا تمارس نشاطاً مقاوماً مادياً.
لكن يبدو أن وقوف الاحتلال مؤخراً على حجم الإنجاز الذي صنعته الحركة الإسلامية في الداخل المحتل قد قرع لديه ناقوس الخطر، فللحركة الإسلامية بصمات عميقة ومؤثرة في المجتمع العربي في الداخل حيث ساهمت في الحفاظ على هويته الإسلامية والعربية، من خلال نشاطها الدعوي والسياسي والثقافي والخدماتي، وعملت على رفع مستوى انتمائه لقضاياه وعلى رأسها قضية المسجد الأقصى، والذي يشهد للحركة الإسلامية تفانيها في منع تهويده، وفي إعماره مع كل المقدسات في القدس والداخل، وتسيير المرابطين للأقصى وإحيائه على مدار العام، حتى بات الشيخ رائد صلاح وصحبه رموزاً لقضية الأقصى والمقدّسات، فكانوا سبباً في حضور هذه القضية على مستوى الأمة كلّها وليس فقط فلسطين، فغدا انتهاك الأقصى الخط الأحمر الكفيل بتفجير الهبّات والانتفاضات خلال السنوات الأخيرة.
أما خطاب الحركة الإسلامية السياسي فهو خطاب واضح بعيد عن المداهنة والمجاملة أو تمييع الحقوق والالتفاف على الحقائق، فهو واضح في لغته العدائية مع المحتل، وفي تقريره للدور المطلوب من الفلسطينيين والمسلمين للدفاع عن مقدساتهم، وفي تفصيله لمخططات الاحتلال ونواياه، وفي تحديده للأولويات والمسؤوليات المقابلة. ولذلك كله كانت النتيجة الطبيعية أن يعلن الاحتلال حربه على هذه الحركة ورموزها، لأنها شوكة كبيرة في حلقه، وجمهورها العريض يزداد مع مرور الأيام ولا يتناقص، لأن الشارع خبر صدقها وأصالتها وصلابتها ولمس آثارها الجليلة في واقعه على مختلف الأصعدة.
أما السؤال حول تبعات إجراء الاحتلال الأخير فهو آخر ما ينبغي الاكتراث له، ليس لأنه إجراء شكلي سيطال مظاهر نشاط الحركة المادية والمرئية فقط، بل لأنه يستهدف فكرة عميقة الجذور وممتدة الظلال، ولأن الحظر والملاحقة من شأنه أن يحوّل جمهور هذه الحركة إلى أشكال أخرى من النضال ضد الاحتلال، وهي أشكال لن تقف كثيراً عند الحسابات والاعتبارات المادية، ولا تعيقها خشية من التبّعات، ما دام الحظر قائماً في كلّ الأحوال.
سبق للاحتلال أن حظر حركة حماس في فلسطين بعد عام على انطلاقتها واعتقل الآلاف من قادتها وعناصرها، وظلّت حملاته ضدّها تشتد مع تعاقب السنوات بالحظر والاغتيال والاعتقال والمصادرة والملاحقة، فماذا كانت النتيجة بعد هذه السنوات؟!, لم تختفِ الحركة ولم يتعطّل مشروعها ولم ينفضّ الشارع من حولها، بل بات خيارها المقاوم يجدّد نفسه في كل مرحلة ويتعاظم ويتطوّر فكراً وممارسة.