هل إسقاط الطائرة الروسية من قبل سلاح الجو التركي حدث عابر؟
ليس حادثًا عابرًا أو خطأ تقنيًا ما حدث على الحدود التركية السورية، فقد أعلنت تركيا مرارًا منذ أسبوعين، رفضها للقصف الروسي لجبل التركمان، وهو منطقة سوريّة ذات أغلبية تركمانيّة، واستدعت الخارجيّة التركيّة، الأحد، القائم بالأعمال الروسي في أنقرة لشرح حيثيات المنطقة وحساسيّتها بالنسبة للأتراك، حيث تشهد مدن تركيّة عدّة احتجاجات غضبًا من القصف الروسي المتواصل على القرى التركيّة.
بالإضافة إلى ذلك، كان من المقرر أن يتصدّر القصف الروسي على جبل التركمان محور المناقشات، التي كان من المفروض أن تنعقد الأربعاء، بين رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو ووزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف؛ قبل أن يعلن لافروف إلغاء زيارته لتركيا غدًا.
من أين ينبع الغضب التركي؟
التركمان هم امتداد للشعب التركي، حيث أنهم سوريّون ناطقون بالتركيّة، يعيشون في سوريا منذ العهد السلجوقي وازداد وجودهم في البلاد مع فترة الحكم العثماني، وانخرطوا في الحياة العامة السوريّة، خصوصًا بعيد الاستقلال السوري، وبرزوا في السياسيّة والفن، منهم الفنّانة السوريّة الشهيرة هالة شوكت.
مع ذلك، اعتبر التركمان نفسهم أتراكًا، بحكم اللغة وبحكم الرابطة القوميّة القويّة، التي تجمع بين متحدثي التركيّة داخل تركيا وفي المناطق التي كانت خاضعة للحكم العثماني حتى انهياره مع وضع الحرب العالميّة الأولى أوزارها.
ما دور التركمان في الثورة السورية التي انقلبت حربًا أهليّة؟
عانى التركمان خلال حكم حزب البعث من حملة اضطهاد واسعة، حيث قامت الدولة بفرض أسماء عربيّة على المدن التركمانيّة، وقامت بتعريب نظام التعليم المعمول به في مناطقهم، وصلت ذروتها أثناء فترة التسعينات، عندما دعم نظام الأسد مقاتلي حزب العمال الكردستاني ووصل الأمر حد تهديد رئيس الوزراء التركي باحتلال حلب، ما لم يتراجع الأسد عن ذلك وتسليم أوجلان لتركيا.
أما في الثورة الحاليّة، وبعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلاميّة – داعش، على مناطق شاسعة في الشمال السوري، ومع فشل قوّات المعارضة والنظام في منع توسّعه؛ راهنت أنقرة على التركمان في وضع حد لتقدّم تنظيم الدولة على الحدود التركيّة، بالإضافة لإقامة منطقة عسكرية عازلة بين جرابلس وكوباني تستغلها تركيا لإقامة مخيمات للاجئين داخل الأراضي السوريّة.
ولأن هاجس الأتراك الدائم هو الأكراد، وبعد رفض الروس والأميركان إدراج وحدات حماية الشعب الكردية، الشق السوري لحزب العمال الكردستاني، ضمن القائمة التي تحوي المنظمات الإرهابيّة في سوريا، فقد سلّحت تركيا التركمان بشكل خاص من أجل خوض المعارك في سوريا مع الأكراد نيابة عن الجيش التركي، الذي اكتفى بتقديم غطاء جوي لهم.
أما اللواءات العسكريّة للتركمان فأبرزها لواء جبل التركمان، الذي ينشط في المنطقة التي أسقطت فيها الطائرة التركيّة.
لماذا تعتبر المنطقة التي أسقطت فيها الطائرة حسّاسة جدًا؟
في خضّم الأزمة العسكرية التي نشبت في تسعينيّات القرن الماضي بين تركيا وسوريا كما أسلفنا، عقد مؤتمر سري للسلام في أضنة برعاية الرئيس المصري آنذاك، حسني مبارك، ونصّ الاتفاق أن المنطقة المحاذية للحدود التركية في لواء الإسكندرونة المحتل، تتبع للحكومة التركيّة حصرًا، فلا يجوز لأي قوّات الاقتراب، حتّى الجيش السوري.
من جهة أخرى، فإن القاعدتين العسكريّتين الروسيّتين في سوريا: قاعدة باسل الأسد الجوية وطرطوس البحريّة تقعان على مقربة من منطقة جبل التركمان ولواء الإسكندرونة المحتل.
أما ثالثة الأثافي، فالمعقل التاريخي لآل الأسد، القرداحة والقرى المحيطة بها، لا تبعد عن مكان إسقاط الطائرة بأكثر من مرمى حجر، ما يعني أن عقر دار الأسد، أو 'الدولة العلويّة' أيّام الانتداب الفرنسي، وحسب تسريبات المهووسين بتقسيم سوريا طائفيًا؛ لن تستقل عن سوريا الأم، طالما جبل التركمان خارج سيطرة النظام السوري.
ما أهمية الموقع الاستراتيجي لتركيا؟
لطالما اعتبرت تركيا محط أنظار التوسع الروسي، عبر مختلف تسميات الدول التي مرّت على البلدين عبر التاريخ، فمضيقي البوسفور والدردنيل لطالما مثّلتا حُلمًا لروسيا ومنفذًا لها على البحر الأبيض، خصوصًا أن حوالي 40% من التجارة الروسية تمر عبر مضيق البوسفور، ففي حال الحرب بين البلدين، المتفقين اقتصاديًا والمختلفين سياسيًا، بإمكان تركيا إغلاق المضائق ما يعني حصارًا خانقًا على روسيا.
أما الحساسيّة الأخرى، فهي القرب التركي من القواعد الروسية الوحيدة خارج أراضي الدولة في اللاذقية وطرطوس، خصوصًا أن تركيا (إلى جانب فرنسا) هي صاحبة أقوى أسطول بحري في منطقة البحر المتوسط؛ ما يعني تهديدًا لروسيا في ما تريده حديقتها الخلفيّة.
في حين أن العقبة الأهم في وجه الروس، والهاجس الأعظم: الغاز القطري؛ فلطالما اعتمدت أوروبا بأكملها على الغاز الروسي بعد انهيار الاتحاد الأوروبي، وهو ما يشكّل عامل ضغط وقوّة في يد بوتين ورغباته في إخضاع أوروبا لا تقل تأثيرًا على أقوى الأسلحة العسكرية الروسيّة، ففي العام 2008 شكّلت روسيا أزمة في أوروبا تضرّر منها كل بيت حينما قرّرت شركة غازبروم الروسيّة وقف تمديد الغاز لأوروبا.
ولأن أوروبا سئمت الابتزاز الروسي، ومع وجود بديل جيّد لأمد بعيد، هو الغاز القطري، تبلورت فكرّة خط الغاز المباشر من قطر إلى أوروبا مرورًا بتركيا وسوريا، وهنا مربط الفرس، فإن الحكومة الروسية تخشى في حال سقوط حكومة سوريا ممثلة بشخص الرئيس، بشّار الأسد؛ أن تصعد إلى الحكم قوى مقربة من قطر وتركيا، تسمح بمرور الغاز القطري المسال إلى أوروبا مباشرة، ما يعني ضربة مباشرة للاقتصاد الروسي ولنفوذها السياسي في آن.
هذه النقاط الثلاث، شكّلت الهاجس الأكبر لروسيا من تركيا، دون الحديث عن القوّة العسكرية التركيّة أو العلاقات الوثيقة بحلف شمال الأطلسي، ناتو.