في ذروة ما تشهده الانتفاضة من تطورات متلاحقة على الصعيد الميداني، تبدو المواقف السياسية المحيطة بها بحاجة لكثير من التوضيح والقراءة، رغم أن كثيرا من الغموض السياسي للقوى والأطراف ذات العلاقة بالانتفاضة مقصود وموجه، وليس عفويا بالضرورة.
تردد السلطة الفلسطينية
تغلب على الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية من أحداث الانتفاضة حالة من التردد وعدم الحسم، ويمكن ملاحظة ذلك بصورة عملية عبر سلسلة من المعطيات، لعل أهمها عدم إطلاق مسمى "انتفاضة" على الأحداث الدائرة في الضفة الغربية والقدس منذ أكثر من شهرين، والاكتفاء بمفردات "هبة شعبية، واحتجاجات، ومواجهات".
ربما لا تفتقر السلطة لمزيد من الثراء اللغوي الذي يؤهلها لأن تطلق اسم الانتفاضة على المواجهات الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكنها تعلم يقينا أن اعتمادها هذه الكلمة يعني أن هناك تبعات سياسية، ربما لا تطيقها، أو من الأساس لا تريدها، ولذلك فهي تكتفي بتلك المفردات التي تهوّن كثيرا من طبيعة الأحداث ومجرياتها، ولعلها بذلك تريد أن تحفظ لنفسها خط الرجعة مع الإسرائيليين.
المثير في الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية أنها لم تصدر أي إدانة للعمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين في ظل حالة التبني الكاملة من قبل الشارع الفلسطيني والفصائل السياسية لهذه الهجمات، ولذلك قد يصعب على السلطة أن تخرج بموقف نشاز منها، مما يحتم عليها الصمت، لا تبنيا ولا استنكارا، وهي بذلك اختارت أضعف الإيمان، خشية من اتهام إسرائيل لها بدعم العمليات، وتشجيعها، رغم أن السلطة لم تسلم من هذه الاتهامات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة.
في الوقت ذاته، فإن التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية ونظيرتها الإسرائيلية يجري على قدم وساق، حتى في ذروة الانتفاضة والحرب، وارتقاء أكثر من مئة شهيد وإصابة الآلاف، وهو أمر تعترف به إسرائيل وتعلنه يوميا، بينما تلتزم السلطة الفلسطينية الصمت إزاءه، عملا كما يبدو بقاعدة أن "السكوت علامة الرضا"، وهو أمر يحمل في طياته توجها رسميا فلسطينيا بعدم الذهاب إلى العمليات المسلحة، وإبقاء الأمور في طور العمليات الفردية من الطعن والدعس.
صحيح أن موقف السلطة الفلسطينية ربما يحمل في ثناياه تناقضا إزاء تعاملها مع الانتفاضة الجارية، لكنه أمر طبيعي لمن يعرف مواقف سابقة لها من أساليب وأدوات الكفاح ضد إسرائيل، فالسلطة في الأسابيع الأولى من الانتفاضة ربما استطاعت وقفها، بفعل أنها كانت أحداثا متفرقة، وعمليات متباعدة، لكنها لم تكن تريد وقفها، لعلها تكون أداة ضغط على إسرائيل لإبداء حلحلة في مواقفها السياسية التفاوضية، ومحاولة إرسال رسائل للمجتمع الدولي بأن الانشغال عن القضية الفلسطينية بملفات إقليمية يعني اشتعال الميدان في الأراضي الفلسطينية.
في حين أنه بعد مرور أكثر من ستين يوما على الانتفاضة، وسقوط أكثر من 23 قتيلا إسرائيليا وإصابة المئات، وعدم حصول تغيير جوهري في الموقف الإسرائيلي من عملية التسوية، واستمرار القوى العظمى في العالم بإدارة الظهر للملف الفلسطيني بسبب حصول مستجدات طارئة في سيناء وباريس، دفع بعض الأوساط في السلطة الفلسطينية للحديث في بعض الاجتماعات المغلقة عن بحث خيار وقف الانتفاضة، ومحاولة إجراء انسحاب تدريجي منها، لكن الوقت كما يبدو فات على هذا التوجه، وباتت السلطة غير قادرة على وقفها، رغم رغبتها في ذلك.
المسألة ليست أحجية في جوهرها، لكن السلطة الفلسطينية اليوم كان باستطاعتها وقف الانتفاضة في بداياتها الأولى لكنها لم تكن تريد، واليوم كأنها -أو بعض أطرافها- تريد وقفها لكنها لا تستطيع، ما يعني أن الهدف الأساسي من تسهيل اندلاع الانتفاضة، وحدوث المواجهات اليومية في الضفة الغربية، تمثل في أن تكون هذه الانتفاضة مقدمة لـ"تحريك" عجلة المفاوضات من جديد، وليست عهدا جديدا لـ"تحرير" ما تبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية على الأقل.
الساسة والعسكر بإسرائيل
عند الحديث عن الموقف الإسرائيلي من أحداث الانتفاضة، يبدو من الوجاهة بمكان إحداث تفريق حقيقي وجدي، وليس متوهما، بين المستويين الإسرائيليين: السياسي والحكومي، والأمني والعسكري، ولكل منهما وجهة نظره، وحوافزه لإثباتها على أرض الواقع.
المستوى السياسي الإسرائيلي -متمثلا في الحكومة وأحزاب الائتلاف- يرى أن هذه الانتفاضة أعمال عنف تجب مواجهتها بقدر أكبر من العنف، وما لا يأتي بالقوة مع الفلسطينيين يأتي بمزيد من القوة، هكذا يلخص موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي قناعاته السياسية، ولذلك ما إن يثبت عجز وسيلة عسكرية قمعية ضد الفلسطينيين حتى يتم البحث في سلة الأدوات القديمة عن وسيلة أخرى.
أسباب كثيرة تدفع الساسة الإسرائيليين "لتجريب المجرب"، والمتأمل في قائمة العقوبات الإسرائيلية على منفذي العمليات الفلسطينية وعائلاتهم، تراه لا يبذل جهدا كبيرا في استرجاع ذات العقوبات في الانتفاضتين السابقتين الأولى 1987، والثانية 2000، خاصة هدم المنازل، والإبعاد، والغرامات المالية، وغيرها من عقوبات لم تحل دون اندلاع الانتفاضة تلو الأخرى، لكنها المكابرة الإسرائيلية التي ترفض الاعتراف بحقوق ومطالب الشعب الخاضع للاحتلال، سياسة تنم عن سيادة "منطق القوة على قوة المنطق" لدى صناع القرار الإسرائيلي في تل أبيب.
أما المستوى الأمني والعسكري الإسرائيلي، فهو اليد الباطشة بالفلسطينيين بأوامر المستوى السياسي، فهو يبدي "تفهما" أكثر من سابقه لحيثيات وصيرورة ما يحدث من انتفاضة فلسطينية، وقد سبق أن تنبأ عدد من ضباط الجيش والمخابرات الإسرائيلية قبل أشهر عديدة باندلاع موجة انتفاضة شعبية في الضفة الغربية، صحيح أنهم تفاجؤوا بأن تكون "السكين" هي سيدة الموقف، لكن المعطيات الميدانية والمعلومات الاستخبارية أشعلت في غرفهم المغلقة أضواء حمراء بأن الهدوء السائد في الأراضي الفلسطينية منذ عدة سنوات يخبئ غضبا دفينا لا بد أن يشتعل، وقد اشتعل.
الجنرالات الإسرائيليون لا يبدو أنهم على وفاق كامل مع ساستهم في الحكومة تجاه التعامل مع الانتفاضة الفلسطينية، لا في معالجتها ميدانيا ولا في مآلاتها سياسيا، وهم يرفعون توصياتهم طوال الأيام الستين الأخيرة بضرورة البحث عن خيارات سياسية أكثر قدرة من نظيرتها العسكرية على وضع حد لهذه العمليات الفلسطينية، على اعتبار أن "العنف لا يولد إلا العنف"، وسقوط أعداد إضافية من الفلسطينيين بين شهيد وجريح، سيعني بالضرورة إذكاء روح الانتقام لدى عائلاتهم وذويهم.
وقد علم كاتب السطور من دبلوماسيين أجانب التقاهم مؤخرا بأن إسرائيل تعد العدة للقيام بسلسلة خطوات سياسية وعسكرية للتعامل مع الانتفاضة، بينها: الإقدام على اجتياح كامل للضفة الغربية، أو بعض مدنها على غرار السور الواقي 2002، والبقاء فيها عدة أشهر من باب إدارة الأزمة، وليس حلها، ورغم أنه لا حاجة لتدخل عسكري إسرائيلي كبير على هذا النحو، في ضوء الاستباحة الكاملة من قبل الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية، سواء بسبب التنسيق الأمني القائم مع السلطة الفلسطينية من جهة، أو عدم وجود خلايا عسكرية فلسطينية قوية قائمة تستلزم القيام باجتياح كامل الضفة الغربية أو بعض أجزائها، لكن القرار يبدو استعراضيا سياسيا أكثر من كونه عملياتيا مجديا.
الهروب إلى غزة
هناك خيار آخر يبحثه الإسرائيليون، على الأقل في طور الاقتراحات والمسودات، يتمثل بالقيام بخطة انسحاب أحادي الجانب من بعض المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، كما قام به "أريئيل شارون" رئيس الحكومة الراحل في قطاع غزة عام 2005، دون اتفاق مع السلطة الفلسطينية.
وذلك من خلال ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة، والتخلص تدريجيا من بعض النقاط الاستيطانية المتناثرة، وتوسيع منطقة "ج" في الضفة، وهو ما يعني تقليص المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وتقزيم دورها من دولة مع وقف التنفيذ إلى دويلة، أو ربما محافظة موسعة، وهو ما يتوقع أن يواجه برفض فلسطيني واسع.
الخيار الأكثر كلفة الذي قد يذهب إليه الإسرائيليون إذا ما قُدر للانتفاضة أن تتواصل، يتمثل في "الهروب إلى الأمام" عبر إدارة أزمة الانتفاضة في الضفة الغربية بافتعال أزمة عسكرية في قطاع غزة، وإسرائيل لن تعدم الحجة أو الذريعة للتحرش بالفلسطينيين هناك، بدعوى وجود قيادة حماس العسكرية هناك التي تحرك العمليات في الضفة، وهو ما قد يسلط الأضواء على غزة، ويتراجع الاهتمام بالضفة.
وقد تكرر هذا السيناريو العام الماضي 2014، حين اختطفت مجموعة فلسطينية مسلحة في مدينة الخليل ثلاثة مستوطنين، وقتلتهم، فتوجهت آلة الحرب الإسرائيلية تلقائيا إلى غزة، وشنت هناك حرب الخمسين يوما، ويبدو أن الفلسطينيين في غزة متنبهين لمثل هذا التقدير الإسرائيلي، الذي سيقابل بالضرورة بمواجهة فلسطينية قاسية.
أخيرا.. ترجيح أي من الخيارات الفلسطينية والإسرائيلية في التعامل مع الانتفاضة الجارية يشبه سؤال المليون، والإجابة وحدها متوفرة في الميدان على الأرض، هذا الميدان كفيل بأن يرفع وتيرة التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، الذين سيردون بالضرورة على ذلك بالتصعيد العملياتي ضد الإسرائيليين، وهنا لا يضمن أحد من الجانبين بأن تبقى وتيرة الهجمات الفلسطينية مقتصرة على سكين وسيارة ورصاصة، فلعل جعبة الفلسطينيين فيها من المفاجآت ما لا يسر الإسرائيليين، وهو ما ستكشف عنه الأيام والأسابيع القادمة.