20.57°القدس
20.22°رام الله
19.42°الخليل
25.05°غزة
20.57° القدس
رام الله20.22°
الخليل19.42°
غزة25.05°
الأربعاء 09 أكتوبر 2024
4.93جنيه إسترليني
5.31دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.13يورو
3.76دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.93
دينار أردني5.31
جنيه مصري0.08
يورو4.13
دولار أمريكي3.76

الانتفاضة الثّالثة.. ومِقلاع داود الكاتب

عبد الله العقاد
عبد الله العقاد
عبد الله العقاد

1

لم تكن قصّة طالوتٍ وجالوتٍ التي حدّثنا عنها القرآن الكريم كاملةً في أواخر سورة البقرة؛ إلّا لتكشف حلقةً من حلقات الصّراع الممتد بين الأمم على فلسطين، والتي هي سرّ عظيم يهبه الله للصادقين المؤمنين؛ لأجل الرّيادةِ في الأرض والسّيادة على العالمين. وقد اقتضى العدل الإلهي أن يجعل شرف الفوز بهذه الأرض المقدسة دُولةً بين الأمم على أساسٍ معياري واضح؛ ليتنافس فيه الناس بعملهم وليس بأنسابهم ألا هو معيار "التقوى والصلاح"؛ وذلك انسجاماً مع رساليّة هذه الأرض، ومكانتها كـ "بوابة السماء" و "مهبط الأنبياء المرسلين". ولكن إذا ما أفِل أهل "التّقوى والصّلاح" لضعف أصابهم أو وهَنٍ ألمّ بهم؛ فإنه يتقدم القوي المتغلب بقهر الواقع؛ فيشغل هذا المكان.. ليس لأحقيةٍ له بهذا المكان وتلك المكانة، بل عقابٌ بمن تقهقر عن مكانته (الخيرية الباقية) وشاهداً على الناس..! 

2


وهكذا دوماً كانت معياريّة التّحوّلات التي شهدتها أرض فلسطين، وقد تقلبت فيها أمم كثيرة بين من هو أحق بها وأهلها؛ لصلاحٍ وتقوى، ومن هو بلاء وابتلاء لمن تنكب الصراط السوي، وكان ذلك المعنى غاية في الوضوح والتّجلي في قصة "طالوت وجالوت" وقد سجّلها القرآن الكريم آياتٍ تُتلى إلى يوم الدين، نتعبد بتلاوتها الله ربّ العالمين. فقد ذكرت الآيات تحوّلاً جذرياً بين أحقية لأمةٍ فضلها الله لطاعتها له؛ فساقها مرغمةً إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين، غير أنها رضيت بعد عزّ بالقعود والذلة والمهانة والخشية من الموت فأصابهم الوهن الذي أصابنا اليوم، فأخرجهم منها أول من سكنها من قومٍ جبارين (الكنعانيون). 

(3) 

وهكذا تبدل الحال فكان العقاب، حتى إذا ما أضناهم (بني إسرائيل يوم كانوا مؤمنين) الشتات، وأشقاهم البلاء؛ هرعوا لنبي لهم (روبين) يطلبون منه: أن يأذن لهم بالقتال، ويُنصّب عليهم أميراً للجهاد في سبيل الله لأجل العودة للأرض المقدسة، وبعد جدال وجدال أقرّ الله عليهم طالوت ملكاً، لما وهبه من بسطة في العلم والجسم. ولمّا فضل القائد الملك (طالوت) بالجنود.. بدأ معهم في سلسلة من الاختبارات، فكان الأول منها: اختبار تحمل العطش (صيام) بعدم الاغتراف من الماء "إلا من اغترف غرفة بيده"، ثم اختبار عدم التعلق بالكثرة "ألهاكم التكاثر" والمسير مع الحق وإن تنكبه الأكثرون، ثم اختبار التعلق بالله والتهيؤ لملاقاته لأنّ مظنة الموت أكيدة لمن تبقى من قليل القليل.. حتى تصفى الجمع على عدد من "أهل بدر" وهم الذين ظنوا أنهم ملاقو الله، ولكنهم مع ذلك يحدوهم الأمل بالنّصر الذي هو من عند الله وإن اختلت الموازين المادية بشكل لا يمكن معه القياس "وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". 

(4) 


فكانت المواجهة بشكلها غير المتكافئ بين الفئة القليلة المتيقنة بالفوز بإحدى الحسنيين (أمل بالنصر أو شهادة في سبيل الله)، وبين أخرى كافرة كثيرة في عَددِها، كبيرة في عُددها وعتادها، فهي تجر بخيلاء وبطراً ورئاء الناس الحديد والقلاع. غير أن فتى صغيراً يُقال له (داود عليه السلام) ترجّل الصفوف، ليواجه جالوت بمقلاعٍ وحجر، فإذا بالمتجبر الخاوي الإيمان والفاقد للأحقية بالأرض المباركة، يخرُّ صريعاً في خيلائه ورجله. أجل، تتهاوى القوة المتجبرة إذا ما واجهتها إرادة الصدق في الإيمان والعزم بالحياة العزيزة لمن هم أهل التقوى والصلاح وتتصدر التقوى في قوة وفتوة التي لا تلوي على شيء غير مرضاة الله والفوز بما أعده الله للمجاهدين الصادقين، فإنها تنتصر حقاً يوم تتنقى الصفوف من الوهن والرياء وإن كانوا هم الأكثرين. 

(5) 


واليوم وقد تبدلت الأدوار فكنّا نحن أهل الدّيار من آمن بالله واتبع رسول الهدى فيثبت حقنا في فلسطين باعتبار الإيمان والنسب الأول لهذه البلاد وهذا لم يتحقق لأمة في غيرنا نحن أهل الديار. ولكنّ الوهن الذي أصاب من آمن قبلنا يوم حلّ بأهلنا أُخرجوا من ديارهم وأبنائهم وبقوا عقودا في مخيمات اللجوء والشتات ينتظرون العودة للديار والتئام الشمل، وقد تجند الكثيرون منهم للسبق في هذا المضمار، وأنه كان كلما تحشدت الحشود فرّق جمعها المال وسلطانه فينشب بينها الخلاف الذي سرعان ما يتحوّل إلى اقتتال لمن كان أشقاهم الجدب والعوز، وهكذا فما أن يَنفر الثائرون في ثورة حتى تداهمهم العطايا والهبات فتهلكهم كما الذين من قبلهم. غير أنّنا مع كل اختبار يتساقط فيه الزيف، ويُصطفى فيه الصادقون؛ نتهيأ متيقنين بأن معركة التحرير إذ ما انحصرت المعركة بين فئتين اثنتين.. عباد لله أولي البأس الشديد الذين يجوسون خلال الدّيار؛ ليتبروا ما علاه الأشرار تتبيراً. فيقُتل داود (الفلسطيني) بحجر ومقلاع جالوتَ (الصهيونية) وقد ظنّ أن جداره الذي يتحصّن خلفه، وحديده الذي يتسربل به مانعه من قدره المشئوم الذي ينتظره. فما هذه الانتفاضة التي تدخل الشهر الثالث يتدافع إليها الشجعان في ثباتٍ من فتيان وفتيات وما تلاقيه من عقوق المنتظرين وتربص المتوجسين.. غير مُبشرٍ من مبشرات الاصطفاء للصادقين.