( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (محمد (7،8)
عاصرتُ كثيراً من المظاهرات في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وقَلَّما تُعَمِّر أسبوعاً واحداً، وربما انطفأت شرارتها في يوم أو يومين؛ فما الذي استجدَّ في أواخر عام 1987م، حتى صمدت الانتفاضة سبع سنين؟!، ولماذا لم يستطع الاحتلال الحيلولة دون تصاعدها، فضلاً عن وَأْدِها؛ إلا بمقاولة أوسلو، مع زبائنَ له كانوا في الإرشيف، لا يكادُ يسمع بهم أحد، على الرغم من اتِّباعه سياسة تكسير العظام، وابتداعه سياسة الاعتقال الإداري دون تهمة، والإقدام على إبعاد أربعمائة أو يزيدون من القيادات والمُرَّبِّين إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، وغير ذلك من السياسات العدوانية؟!.
للإجابة عن هذه التساؤلات أودُّ أن أَشُدَّ الانتباه إلى أنه مع نهاية عام 1987م يكون الكيان الصهيوني قد سلخ أربعين عاماً من عُمُره، نصفها قبل عدوان 1967م، والنصف الآخر بعده، وهذه المدة مساوية لفترة تِيهِ بني إسرائيل؛ حين نَكَصوا عن دخول فلسطين فاتحين؛ بل نُكِسُوا على رؤوسهم حين قالوا: " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ " المائدة (24) وقد كانت الفترة التي سبقت انتفاضة أشبال المساجد فترةَ تيهٍ حقيقيّ لشعبنا الفلسطيني، ولأمتنا العربية والإسلامية؛ حيثُ تمكن اليهود من نشر الأفكار البديلة عن الإسلام؛ بل الجاحدة له، لا بدءاً بالقومية العربية، ولا انتهاءً بالوطنية الفلسطينية؛ فقد انتشرت الشيوعية والإلحاد، والاستهزاء بالدين؛ بل اعتباره أفيونَ الشعوب، وسِرَّ هزائمها، ووقعتْ ملاحقةُ من يقيم الصلاة، حتى إنك لتدخل المسجد الكبير في أوقات الصلوات، فلا تقع عينك على عدد أصابع اليدين ممن جاوزوا الستين؛ أما الشباب فهم لاهون في المقاهي والملاهي والسينما، وغير ذلك من مظاهر الكفر والفسوق والعصيان، مع الغرور بالأنظمة والزعماء الذين يلوكون الوعود، ويتوعدون اليهود، دون أن يُعِدُّوا لهم عُدَّةً، ولا حتى ما استطاعوا من قوة، وقد تكشَّفت الأيام عن التواصل الودود بينهم وبين إخوان القرود، دون الحاجة إلى مؤتمر كامب ديفيد، ولا إلى اتفاقية أوسلو.
غير أن حرب 1967م قد كشفت عورة تلك الزعامات أو النعامات المستأسدة على الشعوب، فأدركنا أن لا مفرَّ من الفرار إلى علام الغيوب، لذلك فقد طفقنا في عملية إحياء الدعوة إلى الله في المدن والأحياء، وقد توفَّر باحتلال الضفة والقطاع فرصة التواصل بينهما من ناحية، ومع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة من عام 1948م، واحتاج تكوين صحوة إسلامية، وقاعدة عريضة من المتدينين إلى عشرين سنة، رغم أن القناعة بضرورة الشروع والتهيؤ للعمل المسلح، والاشتباك مع الاحتلال، قد برزت في عام 1982م، بعد جعل المناضلين العلمانيين أحاديثَ، وتمزيقهم في الدول النائية عن فلسطين كلَّ مُمَزَّق، والإقدام على إعدام الآلاف من المدنيين في مخيمات لبنان، لاسيما صبرا وشاتيلا، والعجب العُجاب أن القيادة المهزومة ظلَّت على رأس الهرم، وإلى اليوم. إن الذي استجدَّ في المقاومة هو أن جماعة الإخوان المسلمين قد وجدتها فرصةً؛ لتنخرط في الانتفاضة، والسعي لإشعالها، ولكن تحت مسمىً جديد، هو (حماس)؛ اختصاراً لاسم (حركة المقاومة الإسلامية)، ثم اتخذت جناحاً عسكرياً تحت مسمى (كتائب الشهيد عز الدين القسام)، ومن يومها توجهت الانتفاضة؛ لتكون جهاداً في سبيل الله؛ بهدف تحرير فلسطين كلِّ فلسطين، بمن فيها من الأسرى والمسرى؛ بل البلاد والعباد، وصار الإسلام والعقيدة سلاحاً في المجابهة، وبتسديد الضربات الموجعة للعدو من الحركة والقسام لم يَعُدْ أحدٌ يجرؤ على اتِّهام حَمَلةِ الإسلام بالرجعية والتخلف، فضلاً عن زعم أنه أفيون الشعوب، ولذلك فلن تكاد أربعون سنة تمضي على عودة المقاومة سيرتها الأُولى جهاداً في سبيل الله حتى يكون الاحتلال قد زال عن كاهلنا وأرضنا، وصار تاريخاً تقرؤه الأجيال، وهي تسير في فلسطين لياليَ وأياماً آمنين. ولعل من إرهاصات ذلك أن الانتفاضة الثانية قد تمكنت من تطهير قطاع غزة من الاحتلال والفلتان في سبع سنين، ولم تَمْضِ بنا سبعٌ أخرى حتى صمدنا في ثلاث حروب دولية بأحلاف عربية وفلسطينية، وانتزعنا ألفاً من أسرانا، وأكثرهم من أصحاب المؤبدات والمحكوميات العالية، ومعهم سبع وأربعون مجاهدة ماجدة، وعسى أن نرى قريباً صفقة وفاء الأحرار الثانية. ويبدو أننا باشتعال انتفاضة القدس قبل شهرين ونَيِّفٍ قد دخلنا سبعاً جديدة، يُتوقع معها أن نجتثَّ الشجرة الخبيثة للاحتلال في غضون العقد القادم، وهاهو الاحتلال، ومعه أجهزة دايتون للفلسطيني الجديد، عاجزون عن منع انتفاضة القدس أن تُسَدِّدَ ضرباتٍ أمنيةً شبهَ يوميةٍ للجيش الصهيوني والمستوطنين، ويبدو أن تطهير الضفة الغربية من الفريقين، وكذا المسجد الأقصى وشرقي القدس، سيظهر فيها مضمون قوله تعالى: "... فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا " الفتح (27)
أما آية المقال فينادي بها ربُّنا جلَّ وعلا عباده المؤمنين، ويَعِدُهم بالنصر، وتثبيت الأقدام؛ إذا قاموا ينصرون الله؛ أي يجاهدون لإظهار دينه على الدين كلِّه، وحتى لا تكون فتنة، ويكونَ الدين كلُّه لله؛ ليحق الحق، ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، وليهلك مَنْ هلك عن بينةٍ، ويحيى من حيَّ عن بينة، وليعذبَهم الله بأيديكم، ويُخْزِيَهم، وينصركم عليهم، ويشفيَ صدور قوم مؤمنين، ومن أجل أن تضع الحرب أوزارها، ولئلا تفسد الأرض بأن يتمكن أعداء الله وأعداؤنا من تهديم الصوامع، والبِيَعِ، والصلوات، والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيراً. وفي المقابل فقد توعَّد أعداءَنا الذين كفروا - وأشدُّهم عداوة لنا اليهود والذين أشركوا من العرب والعجم - توعَّدهم بالتعاسة التي تَزِلُّ فيها أقدامهم، فَيُوَلُّونَ مدبرين، ما لهم من الله من عاصم، ولسوف يُغلبون ويُحشرون إلى جهنم، وبئس المهاد، هم والذين أنفقوا أموالهم دعماً لهم، يوم تكون عليهم حسرةً، ثم يُغْلَبون، وهم إلى جهنم يحشرون؛ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرُّ، ولهم في الآخرة عذاب النار؛ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، فكانوا من الأذلين الذين كُبِتوا كما كُبِتَ الذين من قبلهم، كما أن أعمالهم ستكون يوم القيامة هباءً منثوراً، أو كرمادٍ اشتدَّتْ به الريح في يومٍ عاصف، أو كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حتى إلا جاءه لم يجده شيئاً.
ولا يحسبن الذين كفروا سَبقوا؛ إنهم لن يعجزوا الله رَهَباً ولا هَرَباً