ثمّة خطاب تقليدي مغرق في نمطيته يتردد على ألسنة كثير من السياسيين والقادة والمتحدثين الفلسطينيين عند حديثهم عن موقع قضية فلسطين في وعي الأمة حاليًّا، وهو الإشارة المتكررة إلى انشغال ساحات الأمة بصراعات داخلية ونسيانها قضية فلسطين، التي تعدّ مركزية وتتجاوز أهمّيتها النطاق الجغرافي الفلسطيني، أو هكذا يفترض كثيرون أنها ينبغي أن تكون.
وثمة حقيقة يسقطها كثيرون من حسبانهم، وهي أن تفاعل الأمة مع قضية فلسطين لم يكن في السابق أفضل مما هو عليه الآن، أي قبل ذلك "الانشغال" بالقضايا الداخلية، فحين كانت البلاد العربية والإسلامية تعيش استقرارها الموهوم تحت جناح أنظمتها المستبدة أو المتواطئة مع سياسات المستعمر الخارجي لم تفلح شعوبها في تقديم شيء عملي لفلسطين أو لقضيتها، حتى في أكثر مراحلها سخونة ونزفًا واحتياجًا للنصير.
لكنّ اعتياد هجاء عموم العرب والمسلمين بالعموم لتقصيرهم تجاه فلسطين هو تقليد فلسطيني قديم يصعب أن ينتهي، غير أنه إن كان مقبولًا في السابق فهو يبدو غير منطقي الآن، لأن ما يجري داخل ساحات الأمة أو معظمها ليس صراعات داخلية، أو لا يمكن اختزاله بهذا التعبير القاصر، بل هو في أساسه نضال طويل ومرير للتحرر من الطغاة وأدواتهم، وللخروج من أسر الهيمنة والتبعية التي سيطرت عقودًا على الأمة وجرّدتها من استقلال قرارها وبأسها ومهابتها، بفعل أنظمة ظالمة وقمعية ومرتهنة للإرادة الخارجية، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه ما كان ممكنًا من الشعوب المقيّدة حريّتها والمسلوبة كرامتها أن تقدم شيئًا للفلسطينيين في أي من معاركهم القديمة أو الحديثة.
أما الآن فيلزم الفلسطيني الكثير من التفهّم لهذا المخاض الذي تعيشه ساحات الأمة المختلفة، مثلما يلزمه أن يدرك أن جرحها لا يقل فداحة عن جرحه، وكذا مآسيها المتعددة الجوانب من قتل وأسر وتهجير وتجويع وحصار، فليست فلسطين وحدها المحتلة، ولا وحدها تعيش حالة المعاناة ويقع على شعبها الظلم والقهر، وما عاد هناك جدوى من المطالبات العدمية التي تستهدف الشعوب المكلومة وتفترض أن الفلسطيني فقط من يستحق الدعم غير المحدود من كل جهة أو شعب أو نظام، وهذا الأمر ينبغي أن يترتّب عليه تفهّم للوضع داخل الأمة وإدراك لعاصفة التغيّرات التي تضربها، مثلما يتطلب انحيازًا _ولو معنويًّا_ لمظلومية شعوبها واحترام مشاعرها.
صحيح أن فلسطين واسطة عقد قضايا الأمة، وأن وجود الصهاينة فيها هو أساس كثير من البلاء الذي لحق بالدول المحيطة وتسبب في إبقائها محيّدة عن الصراع ومهيضة الجناح ومسلوبة الإرادة ومحكومة بوصاية خارجية صارمة تضمن هدوء جبهاتها مع المحتل الصهيوني، لكن هذا ينبغي دائمًا أن يحيلنا إلى حقيقة مهمة، وهي أن الانتصار لفلسطين لا يمكن أن يأتي عن طريق أنظمة هذه الدول، ولا عن طريق شعوبها قبل تحررها منها وخلاصها من احتلالها المقنّع.
فحين تتحرر الأمة من طغاتها وحفنة العملاء المهيمنين عليها سيكون الطريق إلى نصرة فلسطين يسيرًا ومتاحًا لمن هم خارجها، أما قبل ذلك فستظلّ اتهامات التخاذل لشعوب الأمة عن نصرة فلسطين بلا أي معنى أو جدوى، وسيبقى المسار الأكثر فائدة من ناحية عملية أن يلتفت الفلسطيني داخل فلسطين إلى واجباته الحقيقية تجاه قضيته، وأن يدرك أن انتظامه في دائرة الصراع ضد المحتل هو الأصل في سلوكه لا الاستثناء، وأن عليه أن يسعى دائمًا لكسر معادلة الجمود وعدم الفعل بدلًا من الانتظار العبثي، وتصدير بعض مظاهر أزمته إلى الخارج.