لم يكن لعيدو نتنياهو، مؤلف رواية "إيتمار كي" أن يتوقع تحقق ما تمناه "موشيه"، بطل روايته الساخرة، الذي خرج لـ"النضال" ضد المؤسسات الإعلامية والثقافية في "إسرائيل" التي تتحكم بها النخب اليسارية.
لقد كانت رواية نتنياهو التي صدرت عام 1998، تعبيراً حقيقياً عن الحملة التي كان يشنها في ذلك الوقت شقيقه بنيامين، الذي مضى حينها عامان على توليه رئاسة الحكومة لأول مرة، وهي الحملة التي استهدفت احتكار اليسار التأثير على المشهدين الثقافي والإعلامي في "إسرائيل".
لقد أسفر التدافع السياسي الذي تحكم بوتيرته اليمين العلماني والديني، بسبب نجاحاته الانتخابية، عن تشكل نخب جديدة حلت محل تلك الموسومة بـ"اليسارية".
ولقد أفضى التعاون بين حكومات اليمين ورأس المال اليهودي الداعم لخطها الأيدولوجي والسياسي عن إحداث تغيير حقيقي في تركيبة النخبة الإعلامية الإسرائيلية، بما يشكل رافداً لضمانة هيمنة اليمين على دائرة صنع القرار لأمد طويل.
وقد تبين أن التيار الديني الصهيوني كان أكثر مركبات اليمين حماساً لاختراق مؤسسات المجتمع المختلفة. فقد حثت قيادات هذا التيار الكوادر الشابة على اختراق المؤسسات الإعلامية، سيما تلك التي تحظى الحكومة بتأثير مباشر أو غير مباشر عليها، وفي الوقت ذاته اتجه رأس المال اليهودي المتعاطف مع اليمين لتدشين مؤسسات إعلامية كبيرة، ليس فقط لاستيعاب مزيد من الصحافيين والمحررين والمعلقين من ذوي التوجهات اليمين، بل أيضاً من أجل تكريس رواية اليمين وخطابه الأيدولوجي والسياسي والاجتماعي.
وقد كانت مقولة "الممتازون للإعلام" التي أطلقها الإعلامي والوزير السابق موشيه أورباخ، أبرز منظري التيار الديني الصهيوني، بمثابة الشعار التأسيسي لحملة التجنيد في سلك الإعلام، حيث أغرى "المضمون الرسالي" في هذا الشعار الكثير من شباب هذا التيار الديني للانقضاض على وسائل الإعلام. ومن يتابع البرامج الإخبارية والحوارية التي تبثها قنوات التلفزة الإسرائيلية الرئيسة فسيلحظ بوضوح العدد الكبير من الإعلاميين من معتمري القبعات الدينية "المزركشة"، التي تميز أتباع التيار الديني الصهيوني.
وفي المقابل كان الملياردير اليهود الأمريكي شيلدون أدلسون لا يتردد في تمويل أي مشروع يضمن هيمنة اليمين على سوق الإعلام في "إسرائيل"، ويقلص من قدرة وسائل الإعلام الخاصة المتهمة بتبني الخط "اليساري" على التنافس.
وكانت أول خطوة أقدم عليها أدلسون تدشين صحيفة "إسرائيل اليوم"، التي توزع مجاناَ، والتي سرعان ما أصبحت الصحيفة الأوسع انتشاراً، وتمثل بشكل خاص خطاب التيار العام في اليمين.
وقد كشف تحقيق بثته قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة مؤخراً النقاب عن أن ديوان نتنياهو هو من يحدد اتجاهات التغطية في هذه الصحيفة. ولم يتوقف أدلسون عند هذا الحد، فاشترى صحيفة "ميكور ريشون"، التي باتت تمثل خطاب اليمين الديني المتطرف.
ومن المفارقة أن أدسلون قد نصّب حجاي سيلع، القيادي السابق في التنظيم الإرهابي اليهودي الذي نشط في ثمانينيات القرن الماضي، محرراً مسؤولاً لهذه الصحيفة. فسيلع هذا كان أصغر أعضاء التنظيم الذي نفذ عمليات إرهابية أسفرت عن مقتل وجرح عدد كبير من طلاب جامعة الخليل وإصابة رؤساء البلديات الفلسطينيين المنتخبين، ناهيك عن قطعه شوطا كبيرا في التخطيط لتدمير المسجد الأقصى.
وقد أضحى سيلع، الذي يصر على عدم التعبير عن ندمه عن دوره في التنظيم، رمزاً من رموز الثقافة الإسرائيلية، تترك مقالاته صدىً واسعاً في "إسرائيل".
وإلى جانب اختراق المؤسسات الإعلامية، فقد كان أهم انجاز حققه التيار الديني الصهيوني اختراق المؤسسة العسكرية. فقد استغل هذا التيار تراجع الدافعية للتطوع في الوحدات القتالية لدى الأوساط العلمانية، فبلغ عدد الضباط في الوحدات المقاتلة من المتدينين الصهاينة ما يعادل ثلاثة أضعاف تمثيلهم في تعداد السكان.
وبحسب معظم المعلقين العسكريين، فإنه في حال حافظ التيار الديني الصهيوني على وتيرة تسلله إلى المواقع القيادية في الجيش، فإنه لن يتأخر اليوم الذي تصبح فيه الأغلبية الساحقة من أعضاء هيئة أركان الجيش من أتباعه.
وبسبب مشاركة الأحزاب الدينية في الحكومات فقد زاد تمثيل عناصرها في النخبة التي تهيمن على الجهاز البيروقراطي للكيان الصهيوني، سيما في المواقع التأثير المهمة، وعلى وجه الخصوص المؤسسات التعليمية والأكاديمية.
إن قصة تشكل النخبة الجديدة في "إسرائيل" تبرز في الواقع الخلاف الجوهري بين النظام السياسي الإسرائيلي الذي يضفي شرعية على المخرجات الطبيعية للتدافع السياسي، وضمنها إحداث تغيير في طابع وتركيب النخب، وما يحدث في العالم العربي حيث تتم شيطنة أي محاولة لكسر احتكار النخب القديمة، التي طفت على هامش نظم الاستبداد. فبخلاف ما يحدث في العالم العربي، فلم تسلم النخب اليسارية في "إسرائيل" فقط بالواقع الجديد، بل اتجه الكثير منها للتوافق مع هذا الواقع، بحثاً عن دور ومن أجل الحفاظ على مصادر الكسب.
وفي المقابل، فبمجرد أن وصل الإسلاميون الى "الحكم" في بعض الدول العربية رفعت النخب السائدة فزاعة "الأخونة" لنزع الشرعية عن أي قدر من التمثيل للإسلاميين في المؤسسات التي تؤثر على حركة المجتمع. وسرعان ما وظفت هذه النخب تلك الفزاعة في تسويغ الانقلاب على العملية الديموقراطية بأسرها والإطاحة بمخرجاتها.