صحيح أننا خسرنا معركتنا في مواجهة الإدارة الأميركية، إلا أنه بوسعنا أن نحول الهزيمة إلى فرصة ونقطة لصالحنا، إذا تحلينا ببعض الرصانة وتحرينا أسبابها، ولم نقف عند نتائجها وأحداثها. [title] (1)[/title] أتحدث عن قصة الأميركيين الذين أمرت المحكمة بمنعهم من السفر في قضية تمويل المنظمات الأهلية، ولكن الضغوط الأميركية «أمرت» بإلغاء القرار وتسفيرهم. وكان لها ما أرادت. إذ حملتهم طائرة عسكرية أميركية إلى بلادهم مساء يوم الأربعاء الماضي 29/2. وهي الخطوة التي أحدثت صدمة في أوساط النخبة المصرية، فانهال الجميع على المجلس العسكري والحكومة توبيخا وتقريعا، وتنافس المتحدثون في الدفاع عن كرامة مصر وسيادتها، وعن القضاء الذي ضرب بقراراته عرض الحائط. وتحول الأمر إلى فضيحة سياسية أسكتت المتحدثين باسم المجلس العسكري، وأعجزت رئيس الحكومة عن التعليق على ما جرى، حتى رفض الإجابة على الأسئلة التي وجهت إليه بخصوص الموضوع، كما نشرت صحف السبت الماضي (3/3). ليس لدي اعتراض على التوبيخ والتقريع الذي وجه إلى القائمين على الأمر الذين سمحوا بكل ذلك. فنحن حقا بصدد فضيحة ولطمة للسياسة المصرية كشفت عن عورتين أساسيتين هما: سوء التقدير في إدارة الأزمة، وضعف المناعة المصرية في مواجهة الضغوط الأميركية. ذلك أن الذين فتحوا ملف المنظمات الأهلية الذي يشوبه قدر غير قليل من عدم البراءة. لم يتحسبوا لاحتمال الاشتباك مع الإدارة الأميركية. وربما لم يدركوا أن الرئيس الأميركي الذي يخوض معركة تجديد رئاسته أحوج ما يكون لتأييد الرأي العام قبل إجراء الانتخابات في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم، ولم ينتبهوا إلى أن منع 16 أميركيا من السفر وعرض أمرهم على القضاء المصري يمكن أن يهيج الدوائر الأميركية ضد الرئيس أوباما، كما يمكن أن يصبح حجة بيد أعوان (إسرائيل) في مجلس الشيوخ المتربصين بمصر وثورتها لكي يطالبوا بوقف المعونة السنوية التي تقدم إلى مصر (حوالي 1.5 مليار دولار). هذه التداعيات لم تحسب جيدا، الأمر الذي أثار الغضب في واشنطن. وقد تناقلت وكالات الأنباء أصداءه، حتى وجدنا وزيرة الخارجية السيدة هيلاري كلينتون تتحدث عن مصر بذات اللغة التي استخدمها في القرن الماضي اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني. المحزن في الأمر، أن السلطة القائمة في مصر لم تستطع أن تصمد أمام الضغوط الأميركية، واضطرت إلى الاستجابة لها والانحناء أمام العاصفة على النحو الذي رأيناه متمثلا في إلغاء السلطة لقرار محكمة الجنايات بمنع الأميركيين من السفر ثم تسفيرهم فعلا، وهو ما أطلق في الفضاء المصري ما شاهدناه من حملة هجاء السياسة الأميركية والتنديد بالمجلس العسكري. ورغم أن كل طرف نال ما يستحقه، فإنني أزعم أننا حين استسلمنا للانفعال، فإن الضجيج فوَّت علينا فرصة التفكير والتدبير، فتعالت أصوات حناجرنا وتوارى دور عقولنا ومداركنا. [title](2)[/title] الجميع -بمن فيهم الذين وجدوها فرصة للمزايدة والغيرة على السيادة الوطنية- سألوا كيف حدث ذلك؟ لكنني لم أجد أحدا يسأل: لماذا حدث؟، ذلك أنه في الظروف العادية، وفي أي دولة محترمة، فإن القضاء حين يقرر أمرا كذلك الذي صدر بمنع الأميركيين المتهمين من السفر، فإن واشنطن لا تستطيع وليس لها أن تطلب إلغاء القرار وتسفيرهم. وإذا تجرأت على ذلك، فإن الرد الطبيعي يكون بالاعتذار عن عدم الاستجابة للطلب. ودعوة الإدارة الأميركية إلى احترام قوانين وسيادة البلد، لكن ذلك لم يحدث في مصر، الأمر الذي يستدعي بقوة السؤال: لماذا؟ ردي السريع أن مصر -التي قزَّمها النظام السابق، وبدد عناصر قوتها، وقلص دورها في العالم العربي ناهيك عن الساحة الدولية- لم تعد قادرة على أن تقول "لا" لواشنطن، وهذا اعتراف مفجع يتعين الإقرار به. وإذا ما قررت يوما أن تتحدى وقالت "لا"، فينبغي أن تكون مستعدة لدفع ثمن ذلك الموقف. والعسكريون بوجه أخص هم أكثر الناس إدراكا لهذه الحقيقة ووعيا بتداعياتها، وهذه مسألة تحتاج إلى بعض الشرح. قبل الشرح أنوه إلى أنه ليس لديّ أي دفاع عن مسلك السلطة القائمة في مصر، وأعتبر أن التراجع الذي حدث يشكل وصمة في جبين البلد يجب الخلاص منها. ولكني أزعم أن الاعتراف بالحقيقة التي أشرت إليها مهم لسبر أغوار المشكلة وتتبع جذورها وفهم ملابساتها. وشأن أي مرض فإن الاعتراف بوجوده والتعرف على طبيعته أولى مراحل العلاج والتعافي. لماذا أقول إن العسكريين هم أدرى الناس بما أشرت إليه واعترفت به؟ ببساطة لأن 1.3 مليار دولار من المعونة الأميركية التي جرى التلويح بإيقافها يعتمد عليها في تسليح الجيش المصري. والاعتماد على التسليح الأميركي لا يعني فقط تزويد مصر بصفقات السلاح التي تشمل رشاشات وصواريخ ومدرعات وطائرات وغير ذلك. لكنه يعني أيضا إحداث انقلاب في الخطط العسكرية والهياكل التنظيمية، والتدريب والعقيدة القتالية، والتكتيكات الخاصة والعامة، وعناوين أخرى كثيرة تتطلب سنوات عدة لتبديلها من منظومة إلى منظومة أخرى مغايرة. وهو أمر ليس مستحيلا، لكنه يحتاج إلى وقت ليس قصيرا. وقد حدثني خبير عسكري مخضرم عن أن مصر حين عقدت صفقة الأسلحة التشيكية في عام 1955، وتحولت إلى السلاح الروسي، فإنها حتى هزيمة 1967 لم تكن قد استوعبت السلاح الجديد. ولم يتحقق ذلك إلا في عام 1973، بعد بذل جهد مكثف استمر طوال السنوات الست السابقة. وللعلم فإن التحول من السلاح الأميركي إلى غيره -خصوصا إذا تم في ظل صدام أو تعارض للمصالح- لا يحتاج إلى وقت فحسب، ولكنه يتطلب إرادة سياسية مستقلة تضع في الحسبان ردود الأفعال الإسرائيلية. والصمود في مواجهة من ذلك القبيل يستلزم توفر قدر كبير من العافية السياسية والاقتصادية، يمكّن صاحب القرار من أن يقول للأميركيين "لا" وهو مطمئن إلى أنه يقف على أرض صلبة في الداخل. هذه الخلفية تدعونا إلى طرح السؤال التالي: هل يستطيع المجلس العسكري في ظروف مصر الراهنة أن يقول "لا" للأميركيين، وهل هو مستعد لدفع «فاتورة» مثل هذه الممانعة المسكونة بالتمرد والتحدي؟ لن أجيب من عندي، ولكن واقعة استجابة المجلس العسكري السريعة للضغط الأميركي تقول لنا -بما لا يدع مجالا للشك- إن المجلس لم يستطع أن يقول "لا"، ووجد نفسه مدفوعا إلى تجاوز بعض الخطوط الحمر المتعلقة باحترام قرار القضاء واستحقاقات السيادة الوطنية. وهذا اعتراف مُر، تتعين الإشارة إليه لاستخلاص العبرة مما جرى. [title](3)[/title] أحفظ عبارات حماسية كثيرة تناسب المقام، وهتافات مجلجلة تهز الفضاء، وأبياتا من الشعر تستنفر الحجر يمكن أن تطلق لإلهاب المشاعر وتعزيز روح التحدي في مواجهة كل المستكبرين، لكنني أعرف أن النِّزال في السياسة له شروط، أولها وضوح الهدف، وثانيها توفر الإرادة، وثالثها الأخذ بأسباب القوة التي يستلزمها تحقيق ذلك الهدف. بكلام آخر فإن الرغبة لا تكفي بحد ذاتها، ولكنها إذا لم تقترن بالقدرة فإنها تظل حلما يحلق في الآفاق ويداعب الخيال، في حين يتعذر تنزيله على الأرض. مرة أخرى: لست في مقام الدفاع عن المجلس العسكري، الذي تورط في عدة أخطاء طوال السنة الماضية أشرت إليها في حينها، كما أخذت عليه سوء إدارته لأزمة المنظمات الأهلية. لكنني أزعم أن خياراته كانت محدودة للغاية في تعامله مع الضغط الأميركي، الأمر الذي أدى إلى هزيمتنا في تلك الموقعة. وأزعم أن استثمار تلك الهزيمة في سحب الثقة من الحكومة الراهنة لا يخلو من تسرع وسوء تقدير. بل أذهب في ذلك إلى أن أي حكومة أخرى إخوانية أو ائتلافية إذا واجهت ذات الموقف فإنها لن تفعل أكثر مما فعله المجلس العسكري، حتى ولو اختلفت طريقة الإخراج. أعني أنها ستكون مخيرة بين الاستجابة للضغوط أو تحديها والدخول في مواجهة معقدة وغير مأمونة العاقبة ضد الإدارة الأميركية. أدري أن الاضطرار إلى الاستجابة للضغوط الأميركية أشبه بتجرع السم، لذلك لا أجد مناصا من الإلحاح على إعداد العدة لتثبيت الصمود وتعزيز الممانعة تحسبا لما هو قادم، لأن الإصرار على الاستقلال الوطني يستصحب مواجهة حتمية يوما ما -سياسية أو غير سياسية- مع كل الضغوط الخارجية، ولئن كانت الاستجابة التي حدثت بمثابة خسارة جولة، فإن الإعداد وتقوية العود لاستعادة العافية يعدان ضمانا للفوز في المواجهة في نهاية المطاف. [title](4)[/title] إذا أيقظتنا الصدمة ونبهتنا إلى أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في أن جهة القرار انحازت إلى جانب الموقف الغلط، ولكن الأخطر من ذلك أنها لم يكن بمقدورها أن تتبنى القرار الصحيح، فستكون تلك نقطة إيجابية لا ريب. وإذا ما حدث ذلك فإننا نكون قد حولنا الأزمة إلى فرصة، تفتح أعيننا على أن مصر يجب أن تعطي الأولوية لتحقيق استقلال إرادتها، وأنها لن تستطيع أن تحقق ذلك إلا إذا استعادت عافيتها السياسية والاقتصادية عند الحد الأدنى. صحيح أننا لا نعرف شيئا عن الالتزامات والتعهدات التي قدمها النظام السابق للدول المهتمة بالشأن المصري، وبالتالي فإننا لا نعرف شيئا عن القيود التي يمكن أن تحد من حرية حركة النظام المصري. إلا أننا نعرف أيضا أن الإجماع الوطني إذا تحقق، وأن الإرادة السياسية إذا توفرت، فما من قوة على الأرض تستطيع أن تقهرهما. إن جهدنا في الوقت الراهن ينبغي أن ينصب على إعادة ترتيب الأولويات، بما يحقق أوسع نطاق ممكن من الإجماع والاحتشاد للقوى الوطنية، من أجل أن تسترد مصر عافيتها السياسية والاقتصادية. لكي تمارس الاستقلال الحقيقي الذي يمكنها من أن تقول "لا" لكل من يريد أن يلوي ذراعها ويخضعها لسياسته. إن إدانة الذين ارتكبوا الخطأ مهمة سياسية وأخلاقية، لكن الأهم من ذلك هو تحصين الإرادة المصرية بمقومات العافية التي تحول دون تكرار الخطأ مرة أخرى، وهي الخطوة المطلوبة إستراتيجياً وتاريخيا. ولا أعرف متى تفيق القوى السياسية إلى هذه الحقيقة، متخلية في ذلك عن حساباتها الخاصة وطموحاتها المتعجلة. أما مسألة استعادة العافية فهي تحتاج إلى بعض التفصيل الذي أرجئه إلى حديث آخر.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.