(1)
ما من شك أنّ شعبنا بكُلّيته يسعى جاهدًا ويعمل جادًّا؛ للانعتاق من الاحتلال الصهيوني البغيض، يدفعه إلى ذلك إيمانه الراسخ بعدالة قضيّته وأحقيّته في العيش بوطنه سيدًا كريمًا.
ولكن السؤال: هل من آفاقٍ وطنيّة أُخرى يُمكن أن نسلكها في طريقنا الطويل نحو الحرية والاستقلال؟
نعم، لا يزال شعبنا يراكم عبر مسيرته الطويلة لإنجاز التحرير وتحقيق تقرير المصير وعودة المُهجّرين إلى ديارهم، ولاشك أنّه حقق نقاطًا كثيرة لمصلحة وجوده على أرضه، والحفاظ على هويته، وأكثر من ذلك؛ فقد كشف جوانب هامة من حقيقة المشروع الصهيوني الاستعماري.
غير أنّه إلى الآن على ما يراكمه شعبنا من إنجازات ويطوّره من أدوات، في مقابل ما يقدّمه من تضحيات خلال قرنٍ من الزمان؛ لم يصل إلى مرفأ أي من الأهداف الوطنية الكبرى.
(2)
وهذا ما يُوجب تقويم المشهد السياسي، ودراسة المسرح الدولي والإقليمي في كل مرحلة؛ لرصد المتغيرات التي في ضوئها تقوّم جدوى الأدوات النضاليّة لتحقيق أهدافنا الوطنيّة على قاعدة: "الوسائل والأدوات متغيرة والأهداف ثابتة".
وهذا التقويم وتلك المراجعات يفتحان المجال للحراك الوطني في كل الصُعد والميادين خدمة للأهداف الوطنية الكبرى، في الوقت الذي يُعدّ مخرجًا من قيد الاختيار بين الحصار والاستسلام لمشروع (أوسلو)، الذي جرّ كوارث وطنيّة، وقدم خدمات مجانية للاحتلال كرّس بها وجوده في الضفة الغربية وزاد من وتيرة التهويد في القدس، وأمعن في حصار شعبنا في غزة بيديه وأيدي المجرمين.
أجل، إنه قد آن الأوان لأن يقف الكل الوطني لإجراء مراجعات على كل المستويات في البرامج والوسائل وترتيب الأهداف (المرحلية والإستراتيجية)، وما أنجز خلال مسيرة القرن إلا عامًا (منذ وعد بلفور)، بعدما وصلت مسيرتنا الوطنية إلى أسوأ خيارين إما أن يقتلك الحصار أو تفنى بالاستسلام وأنت تجرّ أذيال الخزي والعار.
وإن كان بعضٌ يجد أن ليس من إخفاقات تستلزم المراجعات، وهو يرى في ظلّ الواقع بمستوياته الثلاث (الوطني، والإقليمي، والدولي) أنّ ما زرعته البندقية لم يستطع أن يُثمّره السياسي في عوائد وطنية، تقصر من عمر الاحتلال وتعزز الوجود الفلسطيني على أرضه.
فإن كانت المراجعات الوطنية ضرورة تستلزمها الإخفاقات؛ فإنها ضرورة كذلك لتصويب المسار وتسديد الخطوات لتسريع المسير نحو الأهداف، وعدم الوقوف طويلًا أمام العقبات والعراقيل فتتجاوز بأقل تكلفة من الوقت والجهد والتضحيات، وعلى ذلك المعيار تحقيق الإنجازات.
(3)
ولكن هل من نماذج لأفكار تفتح آفاقًا للعمل الوطني في مسارات جديدة تخدم مشروعنا التحرري؟
نعم، هي كثيرة وعديدة، ولكننا بحاجة إلى استنطاق العقول الوطنية بدراسة تجارب الشّعوب التي أنجزت التّحرير، مع إدراك خصوصيّة كلّ تجربة تحررية وتفرّدها.
فماذا لو دشنت حركة كفاح وطني تحتضنها القطاعات الشعبية الفلسطينية وكل الفصائل الوطنية بحيث تكون محل إجماع وطني، وتساندها الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم؟
على أن تنطلق هذه الحركة الكفاحية في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الأول الحراك الدبلوماسي المتسلح بالقرارات الدولية الموجبة لحق العودة وتقرير المصير، والمسار الآخر التحرك الشعبي الظهير والمساند للمسار الأول.
وبذلك يوضع حق العودة الواجب وطنيًا ودينيًّا جوهرًا للصراع في إطار برنامج سياسي كفاحي عملي، ونخرجه من الهامش الوطني حيث لا يزال يعبرّ عنه فقط بالذكرى السنوية والاحتفالات الكرنفالية والعروض التراثية.
ولضمان نجاح هذه الحركة الكفاحية يجب أن تأخذ الوجهة الوطنية الشاملة ولا تنحصر في إطار حزبي فصائلي، ولها الاستفادة جيدًا من مركز العودة الذي يعدّ من المراكز المعتبرة في مؤسسات الأمم المتحدة؛ لأن هذه الحركة النضالية تتخذ حق العودة منطلقًا ومتكأ كونه قضية إجماع وطني تدعمها قرارات دولية أبرزها قرار (194).
(4)
فإنّ تلك الرؤى والأفكار من المهم أن تخضع لنقاش وطني جاد قبل الانطلاق حتى نحصنها من التجاذبات والاتهامات، ولكن الأهم ألا نبقى في محطات الانتظار أو في حالة الاشتباك بين البرامج وما تخلفه من تعقيدات تجعل كل فريق وطني خصمًا عنيدًا للفريق الآخر، وهذا ما يرتضيه لنا الاحتلال والأعداء.
ولذلك من الواجب وطنيًّا فك الاشتباك بين البرامج الوطنية بترتيب الأولويات، في الوقت الذي يجب فيه فتح آفاق للعمل الوطني بحيث توظف كل الطاقات الوطنيّة لتُبدع في مجالاتٍ متعددة خدمة لمشروعنا الوطني.
إضافة إلى فصل بين المسارات في الهيكل التنظيمي، ليتحرك بذلك كل مسار إصلاحي أو تغييري أو تحرري في مسار مستقل بنفسه فينجز المطلوب منه وطنيًّا، كل ذلك في إطار برنامج وطني جامع يستند في حقيقته إلى التحرير والعودة وتقرير المصير.
ولتحقيق المتطلبات الأساسية لفك الاشتباك بين البرامج وفتح الآفاق للعمل الوطني وفك الارتباط بين المسارات؛ يجب إنجاز المصالحة (الشراكة) الوطنية من منظار ورؤية وطنية شاملة تجرّم الإقصاء والوأد والتشكيك في أي من مكونات الطيف الوطني تحت أي ذريعة كانت.
وإن احتكار القيادة في جيل واحد، دفعته في أحيان كثيرة الضرورة والاضطرار إلى قيادة المسير الوطني إلى حيث أوصلت؛ يجب أن ينتهي بفتح المجال للأجيال الصاعدة لتأخذ فرصتها بعيدًا عن تقديس الأنا الشخصية أو الحزبية؛ لأن الوطن لكل أهله وشعبه.
فالحوارات الجارية في الدوحة وغيرها لن تكون إلا جولة من جولات كثيرة قادمة، لن تغير شيئًا من الواقع ما لم تكن مبنية على هذا الأساس الهام، وبغيره سندور في حلقة مفرغة يزداد مع كل جولة فيها الاتهامات وتتكرس حالة اليأس والتردّي، في الوقت الذي يجب أن يكون الحراك الثوري (انتفاضة القدس) المنطلق في الضفة الغربية منذ مطلع أكتوبر من العام الماضي محط تقدير واهتمام، وهو يتدرج تصاعديًّا في الأداء والاحتضان الجماهيري، بحيث يفرد له مسار وطني بغية تحقيق منجز وطني مرحلي بالانسحاب من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات فيها.
(5)
هل المقاومة التي استقرّت في الوجدان الوطني العام قيمة معتبرة لا يمكن تجاوزها لا يُعبر عنها إلا بصورة واحدة، أم أنّ لها أشكالًا متعددة وصورًا أكثر من أن تحصى؟
نعم، المقاومة في حقيقتها وسيلة إلى مقصد، وإن كانت هي نفسها قيمة وطنية ارتبطت بمفهوم الجهاد في فقهنا الإسلامي وشريعتنا الغراء؛ فإنها تخضع دائمًا لمعايير المصالح والمفاسد؛ فهي ليست مقصودة لنفسها؛ فالجهاد يحرم، لو تأكد عدم تحقيق المبتغى منه.
فإنّه لمن الواجب وطنيًّا ودينيًّا الالتقاء موحدين في إطار كيان سياسي جامع يستند إلى برنامج وطني يأخذ بعين الاعتبار حقائق التاريخ والجغرافيا والمتغيرات الجاريّة على مسرح الأحداث في الوطن والمحيط، على أن تشرك كل ساحات الوجود الفلسطيني في مشروع التحرر، حتى لا تبقى ساحة غزة وحدها في المواجهة، وقد عادت الضفة لتأخذ دورها أخيرًا بعد غيابٍ قسري استمر عقدًا كاملًا بحكم التنسيق الأمني المُدنّس.
ولنغادر جميعًا عقلية الهيمنة والاستئثار؛ فالكل الوطني مجتمعًا متحدًا متآلفًا أقوى من أجزائه كلها، لو جمعت متفرقة، فماذا لو كان الخلاف هو الناظم بينهم والحاكم فيهم؟!