19.45°القدس
19.3°رام الله
18.3°الخليل
24.5°غزة
19.45° القدس
رام الله19.3°
الخليل18.3°
غزة24.5°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

الجاهليّة مذهب سياسي هدّام

عبد الله العقاد
عبد الله العقاد
عبد الله العقاد

(1)

لم تكن الجاهلية الأولى إلّا حالةً نفسية مجتمعية انقلبت فيها الموازين بغير الحقّ، ليوقع الإنسان نفسه فيها بظُلمٍ عظيم مسَّه في شخصه وماله وعرضه، بل انتهك فيها كلَّ حرماته، وأهدر كلَّ معاني إنسانيّته المُكرّمة، حتى وصل الأمر إلى أن يتوجه إلى جمادات يتوسَّلها متزلفًا بها إلى ربه وخالقه، ومتعوذًا ممن لا يزيده إلا رهقًا.

نعم، هي كذلك الجاهلية الأولى التي انتهى بها الأمر إلى الدَّوس بالقدم، غير ما تمتلكه من فصاحة لسانٍ وجمال بيان، وما لم تخل منه من بقيّة مكارم أخلاق ورثتها من حنفية سمحاء، أرساها الخليل إبراهيم يوم رفع قواعد البيت الحرام، وابنه الذبيح إسماعيل (عليهما السلام)، في البلد الحرام الذي جعله الله مثابًا للناس وأمنًا تُجْبى إليه ثمراتُ كلّ شيءٍ.

وعلى هذا الحال جاءت رسالة الإسلام في شريعتها المتممة لكل ما سبقها من شرائع سماوية جاء بها أنبياء مصطفون، ونزلت بها كتبٌ مصدَّقة بالمعجزات الظاهرة.

فأتت شريعة الإسلام بيانًا وتبيانًا لكلّ شيء، لتقوم الشهادة بالقسط؛ فيتحرر الإنسان من قيود أوهامه، والأساطير التي تبعها من آبائه؛ فأوهت مكانه وأحطّت من مكانته حتى استمرّ يتهاوى في مدارك الخاسرين وإلى أن أخلد أسفل سافلين، يئد البنات أحياء خشية المعرّة والفقر، ويقتل النفس التي حرم الله بغير الحقّ، ويُشرك مع الله آلهة أخرى.

(2)

أما وقد جاء الإسلام بمنهاج قويم يقوم ما عوجّ من الألباب والأفئدة، فينعدل السلوك وتنضبط المعاملة، ليحيا الإنسان الحياة الطيبة، وتتجلى معاني الرحمة للعالمين.

ولكن، كيف استطاع منهاج الإسلام في وقت قياسي أن ينجز واقعًا ينعم فيه الإنسان من واقعٍ كانت قد أفسدته جاهلية جهلاء، ولم نستطع _والمنهاج باقٍ_ أن نُصلح واقعنا بعد ما حلّ من جاهلية أخرى قد تمادى بها الزمان؟

وإن كان السؤال برسم الجواب؛ فإنّ الحقيقة التي يجب أن نعيرها الاهتمام أن هذا الأمر لن ينصلح إلا بما انصلح به أوله، فالجاهلية الأولى لم تكن غير مثال سابق لما ستكون عليه الجاهلية الأخرى، وما انصلحت به أحوال الأولين هو ما سينصلح به الحال في الآخرين.

فالثلة الأولون من أصحاب اليمين لهم ما يقابلهم من الثلة في الآخرين، غير أنّ الثلة من السابقين لا يناظرهم إلا قليل من الآخرين.

ولعلّ ما أشار إليه القرآن الكريم في النهي عن أكثر مظاهر الجاهلية الأولى وليس بالضرورة أشدّها جرمًا _ألا وهو (التبرج)_ سيكون هو نفسه أكثر ما يظهر من فحش وتفحش الجاهلية الأخرى، ونحن نرى ما وصلت إليه تلك الجاهلية من إسفاف مهين عندما تُعرض نساء عرايا في أماكن خاصة بالعرض التجاري في كبريات العواصم الأوروبيّة، وتمتهن المرأة بما يسمى "تجارة الرقيق الأبيض"، وتعرض مفاتن أجمل الفتيات فيما يسمى "مسابقات ملكات الجمال"، وغير ذلك.

ولكن ليس هذا في الجاهلية الأخرى أشدّ ما فيها من سوء ولا أشرّه من فحشاء، وقد أسرفت في القتل والإجرام ما لم يكن في العالمين من قبل، فكم قتلت الدّول التي تتربع على عرش هذه الجاهلية من الهنود الحمر، وكم استعبدت من الأفارقة السود، وكم نهبت من ثروات الشعوب، وكم غزت في مشارق الأرض ومغاربها لتثبيت الهيمنة على الأمم بغير الحقّ!

(3)

وبالعودة إلى منهج الإسلام الصحيح الصالح لكل الأزمان والأماكن، وبه قد انصلح الإنسان في كل أحواله من قبل؛ نجد أنّ المدخل السليم الذي ولجه النبي الكريم في الصّلاح والإصلاح قد ابتدأ بالتّدبر فيما خلق الله والتفكر في أمر السماء والأرض، وذلك ليحدد الإنسان مركزه في الكون، وموقعه بين الخلائق (فلسفة الوجود)، ثم يبدأ رحلة الصلاح الذاتي ومن اتبعه من المؤمنين بتحرير الإرادة من أي تبعيات لغير خالقها وربّها (الإيمان)، وحسن التّوكل على الله والاتصال به والاستعانة به (العبادات)، وتمتين منظومة مكارم القيم الصالحة وتتمة ما نقص منها (النّظم الأخلاقية)، لأنّه ثمرة الإيمان الصادق والعبادات السليمة.

فإذا ما استقرّت هذه المعاني في فئة مؤمنة، وطائفة موحدة تقودها منظومة قيم علوية، بلغت اثني عشر ألف رجل؛ فلن تغلب من قلة، وتستحق أن تتولى أمر القيام بواجب الهداية (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) بكلّ مراتبه من الإنكار بالقلب حتى اليد مرورًا باللسان، وتستطيع أن تدشّن منظومة الحاكميّة بكل أجهزتها (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية)، وتأخذ في حسبانها المصالح المعتبرة والمصالح المرسلة وتردّ المصالح الملغاة، وتستبين كلّ المفاسد وتكشف سبيل المجرمين، وتحدد درجة الضّرر وما يمكن أن يندفع به.

(4)

وبهذا التسلسل المنهجي كان ميلاد فجر الأمة الشاهدة بالحق (لا تحكم إلا بحكم الله)، الذي جعل الشورى مبدأ، والرجوعَ إلى أهل الحل والعقد (ذوي التخصص في الاختصاص) الذين هم أعلم بشئون دنياهم (البرلمانيين)، فهم بذلك يشرعون بما يعوون من البينات وبما يوعون من الكتاب والذكر الحكيم.

وبهذا سيكون ميلاد أمتنا من جديد (الخلافة الموعودة)، التي سيسبقها الحكم الجبري الذي مازلنا نعيش ذيوله التي عما قريب ستنقشع وتُملأ الأرض عدلًا ورحمة.

أجل، هذا منهج الصالحين المصالحين بمراتبه البينة الواضحة، ومسالكه القويمة التي تقتصر معها المسافات، ويحسن معها توظيف الإمكانات توظيفًا أمثلًا، وتوجيه الطاقات الفاعلة في مكانها الصحيح، فهي لا تتعجل الخطى ولا تقفز عن المراحل.

وقد أحسن الإمام البنّا إذ استخلص من هذا الفهم السبيل لدعوته فجعلها في مراحل ثلاث: (التعريف، والتكوين، والتنفيذ)، وجعل أركان دعوته عشرًا (الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والصدق والأخوة، والثقة)، وحدد للفهم عشرين أصلًا، هي عبارة عن محددات فكرية ثقافية لكل المسائل المحورية الهامة التي كانت مثار جدال واستفهام في زمانه.