كغدد سرطانية منتشرة في جسد منهك، تتوزع حواجز الموت في المنطقة، تلتهم الأمن والأمان والكرامة، كما تلقي بظلالها الثقيلة على الشوارع بأكملها.
يترك رجل خمسيني أكياسًا بلاستيكية يحمل فيها بعضا من قوت أبنائه على الأرض، يرفع سترته ثم يلتفت ثم يرفع عن قدميه البنطال، يمشي خطوتين نحو حائط قريب، وجهه للحائط ويداه مرفوعتان للأعلى، وجندي حاقد من خلفه يبدأ عملية تفتيش جسدية له بشكل مهين، فيم صوب الجنود الآخرون بنادقهم على المارة من الفلسطينيين.
وفي صورة أخرى تقف سيدتان، إحداهما تحمل على يديها رضيع قد لا يتجاوز عمره أيامًا أو أشهر قليلة، أخذ الجندي حقائبهما للتفتيش، مرر عصا تفتيش إلكترونية على جسد الأولى، ثم أخد حقيبة اليد للسيدة الثانية أم الرضيع، وفتشها، ثم مرر ذات العصا على جسدها بعد أن فتش "قماط " رضيعها.
عبرت السيدتان الحاجز لكن المشهد لم ينته بعد، فقدر شاب ساقه ليمر من ذات الحاجز بعدهما، وعلى ما يبدو فمزاج جندي الحاجز سيء هذا اليوم فنوى أن يكون عابري الحاجز لهذا اليوم سبيل تحسين مزاجه السيء، رفع الشاب ملابسه وبنطاله كالخمسيني الأول ولحقه شبان آخرون بنفس الخطوات فيما بقي عجوز وفتاة أخرى بانتظار أن ينهي الجندي تفتيش الشبان ليعبروا الحاجز بالاتجاه المعاكس، قبل أن تأتي عدد من النساء وطالبات المدارس ويتعرضون لذات التفتيش من ذات الجندي بعصاه إلالكترونية، وحتى الحقائب المدرسية لم تسلم من التفتيش.
ولكن من المضحك المبكي أن طفلا فلسطينيا لم يتجاوز عمره العشر سنوات كان يقف خلف الجنود، وببراءة كان ينفذ تعليمات التفتيش الجسدي بشكل تلقائي دون أن يطلب أحد منه ذلك، فقد حفظ الطفل تلك الإجراءات عن ظهر قلب، وهو الذي يشاهدها كل يوم، فبيته بجانب الحاجز.
هي ليس مشاهد تمثيلية، لكنها تفاصيل واقع يومي لحياة سكان وجدوا بيوتهم فجأة ودون سابق إنذار قرب حاجز إسرائيلي في المنطقة الجنوبية من الخليل، وهذه المشاهد تحديدا من حاجز إسرائيلي سمي باسم "جابر" نسبة للحارة الفلسطينية التي يجثم على أولها ليحيل حياة المارين هناك إلى جحيم، وهو أحد حواجز عدة منتشرة في المنطقة.
بدت حارتنا كسجن دائم، يمنع الاحتلال دخول السيارات الفلسطينية للمنطقة، فسيارات المستوطنين وحدها من تعبر الشارع، وأي مستلزم للبيت فأنت مضطر لإحضاره سيرا على الأقدام مهما كان الحمل ثقيلا، هذا ما قالته "سوزان جابر" لمراسلة "فلسطين الآن" في حديثها معها.
وأضافت جابر :" كل ما نزل أطفالنا للشارع نبقى قلقين عليهم من سيارات المستوطنين، والتي غالبا ما تحاول دهسهم، كما يتعمد هؤلاء المستوطنين إهانة الجميع هنا بالألفاظ البذيئة المهينة، أو حتى "البصاق" علينا".
تكمل جابر حديثها بمرارة: "لو خطر ببال أي مستوطن أن يأتي حارتنا، ويفتعل أي مشكلة كتكسير محلات أو ضرب أحد الشبان، فإن جيش الاحتلال دائما يقف إلى جانبهم ويساندهم، وفي نهاية القصة يعتقل أربعة أو خمسة شبان فلسطينيين، فنحن محرومون هنا من حق الدفاع عن أنفسنا".
استهداف الأطفال
تتابع جابر حديثها وقد ملأت الغصة كلماتها فتقول :"جيش الاحتلال متاح له دائما تفتيش المنازل، في أي وقت وأي حين، حتى ولو لم نكن بالمنزل وكان الأطفال فقط، يقتحمون منازلنا ويرعبون أبناءنا ويخرجون دون هدف من الأصل لعملية التفتيش، اقتحام لأجل الاقتحام والترهيب فقط".
وتكمل : "يستهدف الاحتلال تدمير نفسيات أبنائنا، من خلال عمليات الاعتقال لأطفال دون العاشرة، مما يسبب لهم الكثير من المشاكل، مثل حالات الرعب من الجنود، أو الفزع ليلا خلال النوم".
جابر معانتها تزداد قليلا عن محطيها، فبيتها يقع تماما على الحاجز، وهي متطوعة في مؤسسة "بيتسلم " كمصورة لتوثيق انتهاكات جنود الاحتلال بحق الفلسطينيين، وقد اكتشفت مؤخرا أن أكثر ما يردع جنود الاحتلال هو توثيق جرائمهم عبر التصوير، فكلما سمعت صراخ على الحاجز، أحمل آلة التصوير الخاصة بي، وأصعد لسطح منزلي للتصوير، لكن في المقابل ينتابني خوف شديد على أبنائي كلما تركتهم وحدهم في البيت خوفا من انتقام الجنود منهم ".
حاجز "جابر" كان شاهدا على العذابات اليومية بحق الفلسطينيين، فيما شهد حاجز 160 القريب على استشهاد الشاب "محمد السلايمة" حين كان يحمل كعكة عيد ميلاده في العام 2012، كما كان الشاهد على آخر لحظات حياة الشهيد "مهدي المحتسب"، وتبقى الحواجز في المنطقة الجنوبية من الخليل سكن في خاصرة الفلسطينيين، وساحة يمارس فيها جيش الاحتلال ومستوطنوه استفزازاتهم اليومية لأبناء المنطقة.