الشهيد جمال دويكات الذي وّري الثرى قبل عدة أيام في مسقط رأسه حي "بلاطة البلد" شرقي نابلس هو أحدث ضحية من ضحايا المقام الديني الواقع في منطقتهم، المعروف بـ"قبر يوسف"، الذي بات يطلق عليه "مسمار جحا".
ففي فجر الأربعاء ما قبل الماضية اقتحم المئات من جنود الاحتلال الإسرائيلي المكان، ونشروا القناصة والقوات الخاصة بين أزمة "بلاطة البلد"، استعدادا لقدوم المستوطنين لأداء طقوس دينية بحجة أن الضريح يعود لنبي الله يوسف عليه السلام، لكن الأمر تجاوز ذلك، فمن بين المقتحمين كان وزير الداخلية الإسرائيلي "أرييه درعي"، زعيم حركة "شاس" المتطرفة.. لكن الشبان وكعادتهم لم يتركوا الاحتلال ومستوطنيه يعتقدون أنهم في نزهة، فوقعت مواجهات عنيفة.
خلال ذلك، أصيب جمال برصاصة في عنقه، وجرى نقله لمستشفى رفيديا الحكومي، وبعدها إلى مستشفى في الداخل المحتل، حتى فارق الحياة متأثرا بجراحه الغائرة.
ابني ضحية
يقول والده محمد مروح دويكات لـ"فلسطين الآن": إن "نجله عانى الكثير في حياته، رغم انه لم يبلغ العشرين سنة بعد، فقد أمضى نحو ثلاث سنوات في سجون الاحتلال، وكان وقتها صغيرا لا يتجاوز الـ15 من عمره، وعندما خرج قبل عام ونصف تقريبا، حاول الاندماج في المجتمع، وعرف عنه طيبة قلبه وعلاقاته المميزة مع الجميع، فقد كان محبوبا وشهما لا يرد أحد".
يتابع "ليلتها وكغيره من الشبان كان يشاهد ما يفعله الاحتلال بنا.. عندما أغرقوا المنطقة بقنابل الغاز المسيل للدموع، وأطلقوا الرصاص في كل مكان بشكل عشوائي.. فأصيب برصاصة أطلقها قناص عليه ولم يفلح الأطباء في إنقاذ حياته".
وتساءل الأب المكلوم "إلى متى سيبقى هذا الحال؟ فهذا المقام تحول لكابوس لأهالي بلاطة البلد.. يقتحمه الاحتلال ليوفر الحماية للمستوطنين الذين يأتون للصلاة.. نحن لسنا ضد الصلاة، ولكن ضد القتل والعربدة؟ لماذا نخسر أولادنا من أجل حفنة من المتطرفين الذين يحوّلون المكان لجهنم كلما جاءوا؟".
خطأ قاتل من المفاوض
أما عم الشهيد "خالد دويكات"، فقد أعلى صوته وطالب السلطة أن تضع حدا لهذه المهزلة. وقال لـ"فلسطين الآن": "توفر السلطة الحماية للمقام، يحرسونه طوال النهار، وفي الليل ينسحبون إذا أراد الاحتلال اقتحام نابلس والدخول للقبر.. وإذا عبّر المواطنون عن غضبهم تواجههم السلطة بقنابل الغاز والقمع.. هذه مهزلة!!".
وتابع "ما ذنبنا أن المفاوض الفلسطيني الذي أقر بأحقية دخول الجيش والمستوطنين للمقام لا يعرف بالتاريخ والجغرافيا!! هل كان يعتقد أنه في شرق نابلس أي في الجبال المجاورة؟؟ وليس في وسط تجمع سكني فلسطيني مكتظ!! ألا يعرف هذا المفاوض أننا كنا نذهب ونحن صغار مع عوائلنا لنصلي في المقام، وكان به محراب طمسه المحتلون!! إلا يعرف أن المكان كان عليه قيّم يهتم به ويرعى شئونه حتى وقت قريب!!.. لماذا علينا أن ندفع ثمن غلطته من دمائنا!!".
مقام إسلامي
ومعروف أن أهالي نابلس قديماً كانوا يميلون للصوفية. وبالتالي فالرواية الأقرب للواقع هي أنّ القبر يعود لرجل صالح اسمه يوسف دويكات. أراد الأهالي تكريمه ببناء هذا المقام.. ولا يوجد إثبات أنه يعود لنبي الله يوسف عليه السلام.
فسجلات دائرة أوقاف نابلس تُشير أن هناك غرفه قائمة في الجهة الشرقية من الساحة الشمالية المكشوفة في مقام كانت قد بنيت في العام 1925، لكي تستعمل كغرفة للتدريس حيث أصبح المقام يؤدي بذلك مهام وظيفة المدرسة الابتدائية، منذ هذا التاريخ حتى العام 1965، دون أن يؤثر ذلك على المقام.
لكن بعد اتفاقية "أوسلو" تغير موقع المقام من الناحية السياسية، إذ أصبحت مسؤولية الأمن تابعة للسلطة الفلسطينية، مع إمكانية زيارة اليهود له من خلال التنسيق الأمني المسبق مع الفلسطينيين.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، شكل القبر نقطة ساخنة للمواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مما أدى إلى ارتقاء عدد من الشهداء الفلسطينيين وكذلك قتلى من الجيش والمستوطنين، الذين شكلوا مجموعة أسموها نواة شخيم (أي نواة نابلس)، حاولت إعادة الوجود اليهودي إلى القبر، من خلال السيطرة العسكرية عليه.
خلاف واضح
يأتي ذلك في ظل الاختلاف الحاصل بين علماء التاريخ الإسرائيليين أنفسهم، حول مكان دفن النبي يوسف. فقسم منهم يعتقد أنه موجود في نابلس، وآخرون في الخليل، بينما يؤكد قسم ثالث أنّه دفن في مياه النيل في مصر.
رئيس قسم السياحة والآثار في جامعة النجاح الوطنية عامر القبج، يقول "لكن الحقائق التاريخية وما عُثر عليه من آثار لا تشير إلى ذلك، بل لا يوجد أي دليل أثري أو تاريخي يثبت هذه الرواية المزعومة، والرواية الشفوية المتناقلة بين الناس أنه مقام لولي صالح اسمه يوسف دويكات".
ويتابع "حتى وإن افترضنا جدلا أن هذا المقام يحتوي على ضريح سيدنا يوسف عليه السلام لا يحق لليهود أن يحتكروا قدسيته لصالحهم على اعتبار أنهم أوصياء على هذا المكان وأنهم مسؤولين عنه، فهو ملك لكل الأديان الأخرى لأن يوسف عليه السلام كان ملكًا وكان نبيًا، وما يسوقه الإسرائيليون اليهود حول هذا الموضوع مجرد محاولة لتبرير سيطرتهم على المنطقة من أجل تسييس الدين فقط، واحتلال قلب مدينة نابلس".
ذكريات قديمة
هذا ما تؤكده الحاجة فاطمة محمود دويكات (77 عاما)، التي تسكن في مكان ليس بعيدًا عن المقام، فتقول "عندما كنت صغيرة كانت نساء من نابلس يأتين إلى القبر وينظمن الموالد.. لكن اليوم حين يأتي الجيش والمستوطنون يزعجوننا بتراتيلهم الدينية واحتفالاتهم، خاصة أن زياراتهم تتم في الليل".
مسن من نابلس يتحدث عن المكان قائلا "يعود قبر يوسف لأحد المعمرين القدامى وكان يسمى بــ يوسف دويكات، وهو من سكان مخيم بلاطة البلد، وعندما توفى الرجل بنوا له مقامًا أصبحت زيارته لاحقا ذات صبغة احتفالية وشكلا من أشكال التراث".
يقول أبو صالحة وقد بَدَت عَلامات الشوّق جلية في وجهه لأيام قد خلت: "كنا نُعِدُ الطعام وَنَذهَبُ دائمًا لزيارة المقام، نقوم ببعض الطقوس هناك كحلاقة شعر للأطفال، لكن حينما احتلنا الإسرائيليون اتخذوا المقام كنيسا يهوديا لهم! واستولوا عليه مدة ليست بقصيرة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والآن يحاولون الرجوع إليه وسرقته بحجة ترميمه ليصبح بؤرة استيطانية داخل المدينة".
موقف السلطة
ويخشى الفلسطينيون من استغلال السيطرة على المكان وتوظيفها لغايات سياسية على حساب الادعاءات الدينية. وعلى ذلك تعقب نائب محافظ محافظة نابلس، عنان الأتيرة: "تعود ملكية هذا القبر للسلطة الوطنية الفلسطينية وهو ضمن المنطقة المصنفة (A) أي تحت سيطرة وسيادة السلطة الوطنية، والمستوطنون يدخلون تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي لأنهم بطبيعتهم ينتهكون كل القوانين، علما أنه مقام أثري ديني لأحد الأولياء، واستنادا للتاريخ والآثار لا نعتقد أبدا انه لسيدنا يوسف عليه السلام".
وتضيف لـ"فلسطين الآن": "جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتدى أكثر من مرة على المدارس القريبة من المكان ووضع قاذورات داخل خزانات المياه التابعة لها.. إنهم يحاولون استفزاز السكان بأي طريقة".
وعن توفير السلطة الحراسة للمكان، توضح أن "ذلك يأتي لمنع الاحتلال من العودة والسيطرة على المقام، ونحن سنتصدى لهم حال فكروا بهذه الخطوة، ولن نسمح لهم بإعادة احتلاله مهما كان الثمن".