20.18°القدس
19.86°رام الله
19.66°الخليل
25.32°غزة
20.18° القدس
رام الله19.86°
الخليل19.66°
غزة25.32°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

مأساة مدينة نابلس

عبد الستار قاسم
عبد الستار قاسم
عبد الستار قاسم

 

نابلس مدينة فلسطينية يبلغ عدد سكانها حوالي 200000 نسمة، وهي قديمة قدم التاريخ المدون. يقول المؤرخون إن الكنعانيين الذين وصلوا الديار الشامية مع الحملات الأمورية من شبه الجزيرة العربية سنة حوالي 2500 قبل الميلاد هم الذين بنوا المدينة وسموها شكيم والتي تعني الأرض المرتفعة أو المنكب. تقع المدينة على جبلين أو بين جبلين وتمتد إلى سفوحهما، ويبدو أن الكنعانيين قد اختاروا موقعها بين الجبال ليسهل الدفاع عنها. الجبلان شمالي ويرتفع حوالي 960 مترا عن سطح البحر وقمته تقوم عليها الآن منشأة تجسسية صهيونية، وجنوبي يرتفع حوالي 850 مترا، ويضم على قمته مقدسات الطائفة السامرية الموجودة بنابلس والتي تشمل مكان افتداء اسحق بكبش إلهي وفق معتقدات السامريين، والمكان الذي كلم فيه رب العالمين سيدنا موسى عليه السلام. يتوسط الجبلين سهل وينابيع مياه كانت تمد المدينة بالكثير من المستلزمات الغذائية بخاصة الحبوب والفواكه والخضروات. أما نابلس فاسم يوناني ومعناها المدينة الجديدة (Neopolis).

مشهود لنابلس أدوارها الريادية في المجالات الحياتية الفلسطينية. فقد كانت نابلس رائدة القرار الوطني والسياسي قبل عام 1948، وكانت رائدة النشاط السياسي إبان العهد الأردني. كما وتعتبر نابلس مدينة المفكرين والشعراء والأدباء، وهي كانت دائما في مقدمة النشاط الثقافي والفكري في البلاد. لقد احتلت نابلس موقعا متقدما بما توفر لديها من كفاءات علمية وفكرية وشخصيات وطنية ملتزمة. كما أن المدينة معروفة بالحلوى الشامية المشهورة وهي الكنافة. لقد خرجت الكنافة من نابلس وعمت بلاد الشام، كما أن الصابون النابلسي معروف جيدا في الأسواق العربية.

تشتهر نابلس ببلدتها القديمة التي تعتبر أعرق بلدة قديمة في بلاد الشام. إنها بلدة متميزة بعمرانها وزخرفتها المعمارية وبيوتها التي توفر الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف. وهي مشهورة أيضا بآثارها الرومانية البيزنطية واليونانية والإسلامية. فيها مساجد وكنائس قديمة، وتحوي مدرجا رومانيا وأعمدة وزخارف متنوعة. وإذا حصلت نابلس على المساعدات المالية اللازمة فإنها ستصبح محجا للسواح الداخليين والخارجيين. وبالقرب منها تقع مدينة سبسطية المشهورة بآثارها الإسلامية والبيزنطية والتي تشكل معلما أثريا فلسطينيا هاما.

بدأت مكانة نابلس تهتز بعد انتفاضة عام 1987 عندما أساء العديد من الشباب المتنفذين في الشارع إلى التركيبة الاجتماعية للمدينة، وأثروا سلبا على نسيجها الفكر والعلمي. لقي هؤلاء الشباب دعما معنويا وماديا من منظمة التحرير الفلسطينية ظنا منها أنهم يملكون عصا سحرية لإخراجها من مآزقها. وبسبب هذا الدعم أخذ يظن هؤلاء الشباب أنهم هم قادة البلاد، وأنهم هم الذين يجب أن يديروا دفتها وتسييرها بالطريقة التي يرونها مناسبة علما أن قدراتهم العلمية والمهنية والإدارية محدودة جدا. أدخل هؤلاء الشباب سواء في نابلس أو غير نابلس البلاد في متاهة سياسية وأزمة أخلاقية وعلمية، إلى درجة أنهم قادوا حملة الغش في امتحان الثانوية العامة عدة أعوام، وعملوا على تعطيل المدارس فترات طويلة من الزمن من خلال الإضرابات المتكررة وساهموا في انتشار الجهالة لدى الجيل الذي نسيمه الآن جيل الانتفاضة. ولم تكن القيادة في تونس بعيدة عن الأمر إذ أرسلت لأعوانها في الأرض المحتلة 67 تطلب منهم ترك الشباب يغشون لأنهم مناضلون علما أن المناضل يأبى أن يغش. أزيحت القيادات الاجتماعية والسياسية جانبا، وظهرت رموز شبابية جديدة لا تعرف كيفية إدارة الأمور، وأخذت الأوضاع المختلفة تتدهور. وكان أهم ما في الأمر أن الناس أخذوا يشعرون بإرهاب هؤلاء الشباب ويحسبون حسابا كبيرا لرد فعلهم واعتداءاتهم. من هؤلاء من أثرى على حساب الناس، ومنهم من سطا وانتهك وتمرد وشكل عصابات ترهب وتخوّف. كان الأمر خطيرا، لكن منظمة التحرير لم يكن لديها العلم والمعرفة لتدرك خطورة ما يجري، وربما كانت تقصد تخريب المجتمع الفلسطيني لأهداف في نفس يعقوب.

امتد تأثير المزاج العام الطارئ إلى الجامعات وأخذ هؤلاء الشباب يتدخلون في الإدارة والمناهج والبرامج ويراقبون المحاضرات والمحاضرين ويلقون الأوامر ويهددون ويعربدون. ووصل الأمر إلى أن السلاح من مسدسات ورشاشات أخذ يدخل إلى الجامعة بأعداد كبيرة، وخصصت الجامعة مركز أمانات لوضع السلاح لغاية انتهاء المحاضرات. وقد كتبت ضد هذه الظاهرة الخطيرة وحذرت منها، لكن إدارة الجامعة وقفت ضدي وعملت على تشويه صورتي، ولم تتخذ إجراء ضد الظاهرة إلا بعد أن تم قتل أحد الطلاب وهو من صيدا/قضاء طولكرم داخل الحرم الجامعي. وبالرغم من إجراءات الجامعة استمر دخول السلاح إلى الجامعة. والملفت للنظر بقوة أن هذا السلاح كان حرا من الملاحقة الصهيونية.

منهجية تخريب المدينة

تناقلت وسائل الإعلام قبل مجيء السلطة الفلسطينية أن مدينة نابلس لن تقبل اتفاق أوسلو وأن نهاية حياة القيادة الفلسطينية ستكون في نابلس. استند التحليل إلى أن المدينة لا تقبل الذل والهوان، ولا تتعايش مع الظلم، ومثلما كانت محركا رئيسيا ضد الانتداب البريطاني وضد الحكم الأردني وضد الاحتلال، فإنها ستقف ضد اتفاق أوسلو وتبعاته. كما يبدو أن القيادة الفلسطينية قد اقتنعت بهذا التحليل ورأت أنه من الضروري أن تتناول نابلس على الغداء قبل أن تتناولها نابلس على العشاء، فقررت تخريب المدينة ونزع حميتها وشهامتها وشجاعتها.

تبنت السلطة الفلسطينية أو بالأحرى القيادة الفلسطينية سياستين وهما: تنصيب أناس غير أكفياء وغير مهنيين على رأس المؤسسات الرئيسية في المدينة ويجنحون نحو الزعرنة والاستعانة بالزعران عندما يقعون في مشاكل أو يواجهون مآزق، وإقامة ظاهرة زعران تثير الخوف والرعب في قلوب المواطنين. السياسة الأولى تخرب المؤسسات وتبعدها عن خدمة المواطنين بالشكل السليم، وتتبنى الوساطات والمحسوبيات كطريقة مثلى للتوظيف، وتعمل على تسييس المؤسسات وجعلها فئوية فصائلية وتحويل كل مؤسسة إلى مزرعة للذي يرأسها. أما الثانية فكانت كفيلة في دفع الناس نحو التسلح ومن ثم حل المشاكل عبر فوهة المسدس أو البندقية الأمر الذي مزق النسيج الاجتماعي وحول العلاقات الاجتماعية إلى علاقات قوة وشك ما بين الناس.

نجحت السياستان، والناس صمتوا ظنا منهم أن القيادات المسماة بالثورية تعرف مصلحة الوطن. ولم يكونوا على وعي أن هاتين السياستين قد تم اتباعهما في إمارة الفاكهاني في بيروت، وأساءتا كثيرا للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وللشعب اللبناني.

تزعم أناس غير أكفياء مؤسسات نابلس الكبرى، ومن قادة هذه المؤسسات من اعتمد النمردة والفهلوة وتجارة السلاح، وساهم مساهمة كبرى في التخريب وإشاعة البلطجة والتشبيح والزعرنة في المدينة. ورئيس مؤسسة كبرى أخرى كان يتصل بسرعة بزعران من المخيمات ومن المدينة ليتوجهوا بأسلحتهم إليها للدفاع عنه أو زجر خصومه. وعندما يدخل الزعران مؤسسة للدفاع عن قائدها فإنهم بالتأكيد لن يتركوا المؤسسة تعمل مهنيا، وإنما يستعملونها لتمرير رغباتهم وشهواتهم. وقعت المؤسسات في النهاية تحت سطوة الزعران والمسلحين الشبيحة.

أما إقامة مؤسسة الزعرنة فكانت ضرورية لإرهاب الناس وتخويفهم حتى لا يتحدوا اتفاق أوسلو وملحقاته. كان من الضروري إخضاع الناس من خلالهم. السلطة لم تشأ أن تكون في مقدمة القامعين والمعتدين على الناس حتى لا تظهر بصورة المجرم أمام العالم وأمام جمعيات حقوق الإنسان، فكانت تعتمد على الزعران في إلحاق الأذى بالمواطنين. لقد اعتدوا علي شخصيا عدة مرات. وقد برر الشخص الذي جند شخصا آخر لإطلاق النار علي بأنه تلقى أوامر بذلك، واعترف أب الشخص الذي أطلق النيران على سيارتي بأنه تلقى أوامر للقيام بذلك. وهكذا كان. كان الزعران إحدى أدوات السلطة في قمع الناس وإرهابهم. كانت تصدر الأوامر بإطلاق النار على هذا وإحراق محل ذاك والاعتداء على منزل آخر، الخ، وأنا أكثر شخص في فلسطين تعرض لاعتداءات الزعران. أصابوني بأربع رصاصات، وحرقوا لي ثلاث سيارات، وأطلقوا علي النار عدة مرات، واعتقلتني سلطتهم سبع مرات. وفي ذات مرة ذهبت إلى شرطة نابلس لأشتكي أحدهم فسجنوني أنا.

هؤلاء الزعران يحملون السلاح، ومنهم من يتاجر بالسلاح والذي يأتي أغلبه من المخابرات الصهيونية. والسلاح يباع بمعرفة المخابرات الصهيونية، ومتابع من قبلها. والصهاينة لا يلاحقون هذا السلاح لأنه يخدمهم من حيث أنه يشيع الفوضى والإرهاب في المجتمع الفلسطيني. الصهاينة يلاحقون سلاح المقاومة وليس سلاح الزعرنة. وهكذا تفعل السلطة الفلسطينية. السلاح يباع ويشترى تحت ناظريها، ويستخدم بمعرفتها لكنه سلاح محبب وليس عدوا. وكم من مرة استعمل الزعران أسلحتهم في العلن في الاستعراضات وتصفية الحسابات لكن السلطة بقيت واقفة تتفرج على المشهد. وكم من مرة اشتبك المسلحون فيما بينهم وهددوا أمن المواطنين، وكم من الناس قتلوا أو جرحوا بالرصاص الطائش الذي يطلقه المسلحون في الشوارع والأماكن العامة.

هدد الزعران وقادة المؤسسات أمن المواطنين بنابلس إلى درجة أنه لم يعد بمقدور الغيورين على المدينة زجر شاب أو ردعه أو حتى تقديم النصيحة له. لقد تنمرد الشباب الضال على كل شيء وانتهكوا الحرمات وابتزوا الناس ماليا، ومنهم من حقق ثراء كبيرا. لم يعد الناس قادرين على التكلم مع شاب يلقي القمامة في الشارع أو يقف بسيارته وسط الشارع أو يفتح حديثا مع سائق سيارة وسط الشارع ويعطل حركة السير، الخ.  وقد ساهم بعديد من كبار التجار وأصحاب المصالح في إشاعة الفوضى في المدينة لأنهم أخذ1وا يعتمدون على الزعران في حماية أنفسهم مقابل المال. ووصل الأمر أن أحد أمراء الزعران قد أصبح من قبل أصحاب المصالح شخصية اعتبارية يشارك في اجتماعات تهم أمن المدينة. وفي ظل هذا الوضع الذي يشهد صراعا داخليا ما زال أمراء الزعرنة يتجولون في المدينة أحرارا ولا يوجد من يلاحقهم. وبعض هؤلاء الأمراء تبوأوا مواقع أمنية في المدينة.

رآكم هؤلاء القوة، وازدادت أعدادهم بصورة كبيرة وتنوعت الأسلحة التي بأيديهم. لقد باتوا يملكون القوة التي تؤهلهم للسيطرة على البلد. هنا اصطدموا بالسلطة لأن السلطة تريدهم أدوات، وهم لم يعودوا يقبلون بهذا الدور. تضاربت المصالح وكل طرف يريد أن يثبت أنه سيد المدينة فاشتبكوا ووقع القتلى.

هل ستنتهي مأساة المدينة هنا؟ لا لأن السلاح كثير والزعران بأعداد كبيرة وسلاح السلطة مرخص إسرائيليا. ما زال المشوار في بدايته. فما الحل؟ لا حل إلا إذا تحولت السلطة الفلسطينية إلى مؤسسة وطنية، وهذا غير ممكن ما زال اتفاق أوسلو قائما.

طبعا التوصيف لا ينطبق على كل شباب نابلس. أغلب شباب نابلس محترمون ويتميزون بغيرة قوية على المدينة، لكن الأصوات الغيورة تغيب عن الساحة لأن السلاح أسكتها. أغلب شباب نابلس يتميزون بأخلاق رفيعة وحسن تعامل مع الآخرين. كما أن أغلب سكان المدينة غير راضين عما يجري، وأغلبهم يعي تماما ما هو مدون في هذا المقال لكنهم لا يملكون الجرأة للتعبير عن أنفسهم. ولهذا تحتاج نابلس إلى إعادة تنظيم وترتيب وإبعاد الفصائل الفلسطينية عن التدخل في إعادة بناء مجتمعها، والمفروض الاعتماد فقط على أبناء المدينة ومنهم آلاف الأكفياء القادرين في صونها والمحافظة عليها من العبث والاستهتار.

لقد غُلبت نابلس على أمرها، لكنها ستعود بفعل سواعد أهلها الأشداء.