يجلس "تامر" حائراً أمام بيته، يتقلب بنظره يميناً تارة ويساراً تارة أخرى، ويمسك بيده عوداً من الخشب يرسم به خطوطاً غير مفهومة تتلاقى حيناً وتتنافر أحياناً كثيرة. اقتربت منه ببطء وسألته عن حاله فقال: "حالي ما بعجب العدو ولا الصديق"، فعلمت أنه يمر بظروف صعبة يحتاج لمن يخفف عنه، وقررت الجلوس بجانبه وبدأنا نتبادل أطراف الحديث. الشاب "تامر" (27 عاماً) يعمل في مهنة الدهان، حاله كحال العديد من الشباب في قطاع غزة، يحلم كل يوم بتكوين أسرة صغيرة أعمدتها الحب وسقفها القناعة لا الطمع، فتذهب والدته - بما فيها من آلام ألمت بها - لتخطب له شريكة حياته، فتصطدم بقائمة من المطالب أبرزها الشقة، والمهر، وتعود إلى البيت بخفي حنين. تخرج والدة "تامر" من البيت كل يوم تقريباً مصطحبة ابنتها الكبرى عن يمينها، ومعها قائمة طويلة بأسماء فتيات في سن الزواج، فتغيبان 6 ساعات ثم تعودان بعدها بخفي حنين، وهي على هذا الحال منذ ما يقرب السنتين. يشتاط تامر غضباً وينظر إليًّ بعينين محمرتين ويقول: "يسألون عن الشقة قبل أن يسألوا عن الشاب، يعني إذا كان عندي شقة وكنت شاب طايش ومش نافع بجوزوني!؟؟". صراحة، وجدت نفسي عاجزاً عن الرد على سؤاله، فالإجابة مرة وشديدة المرارة للأسف، هذا هو حال بعض الأسر الفلسطينية، تنظر إلى المادة قبل أن تنظر إلى الشاب المتقدم لخطبة ابنتهم، وبمجرد علمهم بأن الشاب يسكن مع أهله وسيتزوج في غرفة في نفس البيت تنطوي صفحة الحديث عن الزواج وتفتح صفحة السؤال عن الحال والمآل!. هممت بالقيام لأكمل مشواري فإذ بـ "تامر" يمسك يدي ويضغط عليها بشدة فكادت تكسر، وقال: "يطلبون 5 آلاف دينار مهر، ونفسهم عفش بيت ومؤخر، ويتحججون بأن أسعار الذهب مرتفعة جداً والمهر لا يكفي لشراء ما يلزم من الذهب، ويضيف وهو يضرب كفاً بكف: "إذا كان الذهب يرتفع فما هو ذنبي، على هذا الحال لن أتزوج قبل الأربعين". "تامر" ليس الشاب الوحيد الذي يعاني من كثرة مطالب أهل الفتيات وغلوهم في المهر، فصاحبنا "خليل" (29 عاماً)، وصل إلى درجة القناعة بأن بعض أهالي الفتيات لا يبحثون عن ستر بناتهم، وإنما يبحثون عن المظاهر والشكليات التي سرعان ما تذهب بانقضاء حفل الزفاف، ويبرز الشاب على حقيقته بعدها. "خليل" يحدثنا قصة لم نسمع بها من قبل، فعندما ذهبت والدته لخطبة فتاة وعلمت والدتها أن العريس يمتلك شقة فوق شقة أهله، تأسفت بشدة وأخبرت والدته بأنها تريد لابنتها شقة بمدخل منفصل عن مدخل أهله منعاً للمشاكل!!. "خليل" الذي يعمل في مشروع بطالة 6 أشهر، كاد أن يموت ضحكاً بعد أن سمع كلام والدته، فهو ناقم بشدة على أهالي الفتيات لما تلاقيه والدته منهم، ويقول: "أنا لم أعرف حتى اللحظة كيف يفكر أهالي الفتيات، كلما زادت الطلبات على العريس كلما عاشت ابنتهم في تعس وتعب، فالفرح سينتهي وسيذهب كلٌ إلى بيته، وستبقى الديون على العريس وزوجته". كلام "خليل" أدهشني كثيراً وأحزنني أكثر، إلى هذه الدرجة وصل الحال ببعض الناس!، يريدون مدخلاً لشقة الشاب غير مدخل شقة أهله، نحن قد نجد مبرراً لطلب أهل الفتاة شقة خاصة من العريس لابنتهم تحت ذرائع مختلفة، ولكن لا نجد مبرراً مطلقاً لشقة مدخلها غير مدخل شقة أهله. وفي هذا السياق، لم يغفل الدين الإسلامي عن هذه القضية الهامة التي تلامس حياة كل فرد في المجتمع، بل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف عن الشباب في المهور سنة، وأورد الكثير من الأحاديث النبوية التي تحض على ذلك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير نساء أمتي: أصبحهن وجها، وأقلهن مهرا"، وقال: "خير النكاح أيسره"، وقال: "إن من يمن المرأة: تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها". ووجه رسول الله حديثاً لأولياء أمور الفتيات محذراً إياهم من فساد عريض وفتنة، فقال: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". ويذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه تزوج على أربع أواق- مائتي درهم - فاستنكر ذلك النبي وقال: "كأنكم تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، لا أجد لك إعانة". والمغالاة في المهور والشكليات تجعل من الفتاة سلعة يأخذها من يدفع فيها أكثر، بما يتنافى مع ما جاء به الإسلام الحنيف عندما وضع معيار الدين والخلق أساساً في الزواج، كما أنه يخل بمروءة الرجال ويتنافى مع الشيم والأخلاق الأصيلة. قضية المهر والشقة من القضايا الأساسية التي تؤرق الشباب في قطاع غزة، وتدفعهم نحو سلوك غير قويم في النهاية لا يرغبه أحد، فهي دعوة لأولياء أمور الفتيات بالاقتصاد في طلب المهر، لأن الشباب يعملون بكد وتعب وينحتون في الصخر ليجمعوا بعض المال للزواج فلا تردوهم خائبين، "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.