كتب عبد الرحمن لصاحبه خربوش من الروضة بالمدينة المنورة بعد انتهائه من أداء العمرة في أوائل رمضان، كتب ودموعه تسحّ على خديه: "أخي الحبيب، حملني الشوق إلى الكتابة إليك عبر البريد الالكتروني هذا. وأنا أراك من هنا والمقام مقام خشوع تقول لنفسك ألا تتركني حتى وأنت مسافر؟! لكن الأمر والله أكبر مما تظن، ولعلني أسرّي عن نفسي بالكتابة إليك. كنا قبل يومين في الكعبة المشرفة، وهناك ينسلخ الإنسان من الدنيا ومن هوى النفس، وتعلمه اللحظات ما لم تعلمه السنوات. تعلّق رجل بأستار الكعبة وبكى بكاء مرّاً وهو يدعو بحسن الخاتمة، ولما سُئل، تبيّن أن أخويه كانا من أصحاب العمل الصالح قبله، لكنهما قبل الموت غيّرا وبدّلا، وساءت خاتمتهما، فهو يخشى أن يكون مصيره مثلهما! لا أدري كيف هزّتني تلك القصة هزّاً عنيفاً، وجعلتني أستشعر الخوف العظيم من لحظات التغير تلك، تلك اللحظات الحارقة، التي تمحق السنوات السمان مهما امتد بها العمر! وعجبت لصديقنا الذي قال ممازحاً في يوم ما: إن أخطأت غفر الله لي! وكأنه اتخذ عند الله عهداً، ومن يضمن لنا إن أخطأنا أن يكون لنا مجال لتصحيح الخطأ! ومن يضمن لنا إن أخطأنا وكان لنا مجال لتصحيح الخطأ، أن لا يكون الخطأ من النوع الذي يقول الله فيه للعبد: اذهب فافعل ما شئت فلن يغفر الله لك؟! والأنكى من ذلك، ماذا لو كان الواحد منا قال كلمةً دون أن يلقي لها بالاً فكان حكمه أن يهوي بها سبعين خريفاً في النار؟! يا صاحبي، الأمر عظيم، فاغفر لي لأني لا أحتمل التفكير به، ولعل حديثي فضفضة تريح البال قليلاً، مع علمي بكل المبشّرات التي تبعث الطمأنينة في قلب المؤمن. اليوم بتّ أفهم جيداً ما نردده بألسنتنا دون أن تستشعره قلوبنا جيداً عندما نحكي عن عمر بن الخطاب خوفه من القرار الأخير يوم الحساب حتى لو كانت إحدى قدميه داخل الجنة والأخرى خارجها! يا صاحبي أنت تعرفني جيداً، لا أترك المجال لموقف دون محاسبة نفسي عليه، ومراجعتي لذاتي إن كنت على صواب أم على خطأ، هل يكفي ذلك؟ أليست النفس الأمارة بالسوء قادرة على مخادعة الذات؟ أليست تخدعنا المعطيات في كثير من الأحيان؟ تخيفني الكثير من الأحاديث، ليس حديث الكلمة والسبعين خريفاً وحسب، ولا الحديث عن القلب بين أصابع الرحمن وحسب...، لعل الحديث عن فتن آخر الزمان هو أكثرها إثارة للرعب، أو تنقلب الموازين، ويكون الحليم حيراناً، عندما يُخوّن الأمين، ويُؤمّن الخائن، ويُكذّب الصادق، ويُصدّق الكاذب، ويتسنّم التافهُ شؤون العامة؟ أين نحن من هؤلاء؟! ألا يمتلك المؤمن فراسته؟! أخي الكريم، لعلك تقول: ما لي ولتلك الهموم التي تنأى بها الجبال، دعك من نعمة العقل التي تتباهى بها، والجأ إلى إيمان العجائز فتعلل به، أليس العقلاء أكثر شقاء وأخو الجهالة بالجهالة ينعم؟ أقول لك: أمّا وقد كان العقل مقياس المحاسبة الأخروية فذلك من الابتلاء الذي لا مرد عنه. اليوم نحن في روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دموعنا تبلل وجوهنا وثيابنا، وحديثه عن عين بكت خشيةً من الله يملأ الآفاق من حولنا! لنعمل عمل من رضي الله عنهم، وليبقَ أملنا -مثلهم- معلقاً برضا الله حتى النهاية، ولعل بقاءنا بين بابيّ الرجاء والخوف نعمة لا يشعر بها من لا تخطر على بالهم كل تلك التساؤلات. اللهم ارزقنا قلباً خاشعاً وطرفاً دامعاً، واكتب لنا الإخلاص في كل عمل، وألهمنا الصواب في كل سلوك. وفي الختام اسلم لأخيك ودينك ووطنك".
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.