9.45°القدس
9.21°رام الله
8.3°الخليل
14.6°غزة
9.45° القدس
رام الله9.21°
الخليل8.3°
غزة14.6°
الإثنين 23 ديسمبر 2024
4.59جنيه إسترليني
5.15دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.65دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.59
دينار أردني5.15
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.65

خبر: وهم المسافة الواحدة

إذا ألقينا نظرة سريعة إلى الوراء، قبل أن تخطف أبصارنا نتائج الانتخابات الرئاسية، سنكتشف أن من بين ما تم ابتذاله خلال الأسابيع الماضية مصطلح «المسافة الواحدة». ذلك أنه ما من مسئول في موقع حساس إلا وتحدث عن التزامه بالمسافة الواحدة بين المرشحين، واعتبر أن التصريح بذلك يشكل غطاء كافيا لتحيزاته على أرض الواقع. فالمجلس العسكرى أعلن مرارا أنه يقف على مسافة واحدة، في حين أن ممارسته التي تجلت أمامنا أخيرا شككتنا في دقة تلك المقولة. واللواء حمدي بدين قائد الشرطة العسكرية قالها بمنتهى الثقة والقطع، في الوقت الذي كان رجاله يحرسون تحركات أحد المرشحين. والمفتى الدكتور على جمعة لم يقصر في إثبات وقوفه على مسافة واحدة من المرشحين، لكنه حذر من التلاعب بالدين في الانتخابات. والأنبا باخوميوس قائم مقام بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية أكد حكاية الالتزام بالمسافة الواحدة، في حين نشرت الصحف مرارا، آخرها أمس، أن الكنيسة حشدت أنصارها لصالح الفريق أحمد شفيق. والدكتور كمال الجنزورى انضم بدوره إلى جانب فريق المسافة الواحدة، في حين أن جهاز الإدارة له انحيازه المعروف... إلخ. الإعلام «القومي» وأغلب قنوات التليفزيون وبرامجه لم تستخدم المصطلح صراحة ولكنها لم تكف عن الحديث عن الموضوعية والنزاهة، وكانت حقا تستضيف الجميع مع ترجيح واضح لكفة مرشح دون آخر، الأمر الذي ذكرني بالحوارات التي تجرى في بعض المحافل، وتدعى إليها كل الأطراف. ولكن يمثل الطرف الليبرالي والعلماني عشرة أشخاص، في حين يدعى واحد فقط أو اثنان من الطرف الإسلامي. ويقال للملأ إن الجميع موجودون. ثم لا يعطى الواحد أو الاثنين فرصة للحديث. وتكون النتيجة أن ينقض العشرة عليهما من كل صوب ويعلن انتصار الأولين «واكتساحهم» للآخرين. بمضي الوقت فقد مصطلح المسافة الواحدة رنينه وتم تفريغه من مضمونه. وتحولت اللغة في هذه الحالة إلى أداة ستر وتضليل وليس إبانة وتوصيل. الأمر الذي أدى إلى طمس معالم خريطة المواقف والتحيزات الثقافية والسياسية، وجعلنا نستحضر في العديد من المواقف المثل الشائع الذي يقول: أسمع كلامك أصدقك، أتابع أمورك أستعجب. إزاء ذلك فلا مفر من التعامل مع المصطلحات التي تستخدم في الاشتباك أو التجاذب السياسى بحذر. إذ ليس يكفي أن يعلن الرمز أو المسئول موقفا إيجابيا حتى نصدقه ونطمئن إليه، وإنما يتعين أن نؤجل حفاوتنا به حتى نتثبت من أن الممارسات على أرض الواقع تؤيد ذلك الموقف وتجسده. بكلام آخر فإننا لا ينبغي أن نصدر حكما لمجرد استماعنا إلى إجابة السؤال ماذا، وإنما نتعين أن نتوصل أيضا إلى الإجابة الصحيحة على السؤال «كيف». الحقيقة التي يتعين الاعتراف بها ــ خصوصا بعد خبرة الأشهر الأخيرة ــ أن حكاية المسافة الواحدة في الفضاء المصري كانت -وما زالت- أكذوبة كبرى، إذ لم يلتزم بها أغلب الذين تفرض عليهم مسئولياتهم الوظيفية والمهنية أن يحافظوا على تلك المسافة. ليس فقط من قبيل المسئولية الأخلاقية والأمانة المهنية، ولكن أيضا حفاظا على صدقيتهم وتعزيزا للثقة فيهم. إذا وسعنا الدائرة قليلا وحاولنا أن سبر أغوار الظاهرة، فسنجد أن المسألة أعمق من كونها مجرد تلاعب بالألفاظ أو إهدارا للمعاني. ذلك أن استعمال اللغة في التضليل والتمويه من تجليات افتقاد المجتمع إلى الشفافية. إن شئت فقل إنه من علامات النفاق والرياء، التي يعتبرها عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد». حيث لا يملك أحد جرأة مواجهة الآخر بوضوح وشجاعة. فالسلطة المستبدة تنافق المجتمع وتستر قبح ممارساتها بخطاب تتجمل به وتدغدغ مشاعر الناس، ورجالها ورموز الدولة المستبدة يسيرون على ذات الدرب، وتصبح الحقيقة هي الضحية في نهاية المطاف. في الحالة المصرية لا مفر من الاعتراف بأن مؤسسات الدولة وجهاز الإدارة وأبواق الإعلام لها تحيزاتها الثابتة التي لم تتغير منذ أكثر من ستين عاما استمر خلالها الصراع بين السلطة والإسلاميين، وأن ما نحن بصدده الآن ليس سوى استمرار ذلك الصراع، ربما بوسائل أخرى. وهو وضع لن يتغير إلا إذا نجحنا في إقامة المجتمع الديمقراطي الذي ننشده. الذي تترسخ فيه قيمة احترام الآخر، ويتسلح الجميع بالشفافية التي تطهر الفضاء السياسي والثقافي من الكذب والنفاق، وتلك لعمري رحلة طويلة، ما زلنا نتعثر في خطواتها الأولى.