أخيرا ظهر لنا ضوء في نهاية النفق المظلم. أتحدث عن اتفاق القوى الوطنية أمس الأول على تشكيل جبهة موحدة تواجه عسكرة مصر وتعارض انقلاب الخميس 14/6. وهو الاتفاق الذي أخرجنا من حالة الإحباط التي خيمت على الفضاء المصري طوال الأسبوع المنصرم. وأعاد إلينا الأمل في إمكانية استئناف مسيرة الثورة، خصوصا بعدما أفقنا على الحقيقة الصادمة. التي كشفت لنا عن أن أعوان النظام السابق و«فلوله» لا يزالون يتطلعون إلى استعادة مواقعهم. شجعتهم على ذلك عوامل عدة على رأسها تشتت قوى الثورة وانشغالها بتناقضاتها الثانوية عن التناقض الرئيسي الذي يهددهم جميعا، المتمثل في قوى الثورة المضادة. ولم يعد سرا أنه إلى جانب ذلك العنصر الرئيسي فهناك عوامل أخرى ساعدت الفلول على العودة إلى ساحة العمل السياسي، بعضها محلية والبعض الآخر له مصادره الإقليمية والدولية. يشهد بذلك ما تحدثت عنه وسائل الإعلام الإسرائيلية في هذا الصدد (اتصالات نتنياهو مع الإدارة الأمريكية لإنجاح الفريق شفيق). شيء جيد لا ريب أن تدرك قوى الجبهة الوطنية أن هذا أوان الالتحام والاصطفاف لمواجهة تهديد الثورة المضادة، وأن يقتنع الجميع ــ والإخوان في المقدمة منهم ــ أن مصر لن تقوم لها قائمة وأن الثورة لن تحقق أهدافها ما لم تتكاتف أيدي كل الوطنيين المخلصين لكي يعملوا معا، دون أن يضطر أي فصيل لأن يتنازل عن مبادئه أو مشروعه. حيث ليس مطلوبا من أي أحد سوى شيء واحد هو أن يقدم مساهمته في إنقاذ البلد من «العسكرة»، تمهيدا لتحريره وإطلاق طاقات البناء والتقدم لدى كل أبنائه باختلاف تمايزاتهم وأطيافهم. ليس لدي علم بالمشاورات التي سبقت ذلك الاتفاق، لكنني أتصور أن إنجازه ما كان له أن يتم إلا إذا قام الجميع بتقييم مرحلة التجاذب والتراشق التي استمرت خلال الأشهر الأخيرة، ثم اتفقوا إما على تجميد الملفات القديمة أو ترحيلها إلى المستقبل، بعد ذلك توقفوا عند إدراك المخاطر التي تتهدد الثورة والوطن، جراء احتمالات عودة شبح نظام مبارك، مقنعا ومعدلا. وقرروا أن واجب الوقت هو مواجهة ذلك التحدي وضرورة الانتصار عليه. الآن، اتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولم يعد هناك مكان للبين بين، بل صار من الخطورة بمكان أن يقف أي أحد في الوسط، ببساطة لأن الحياد بين الحق والباطل، يصب في كفة إضعاف الحق وتعزيز موقف الباطل. وهذا الوضوح لا يصحح مسار الحركة الوطنية المصرية فحسب، ولكنه يعيد صياغة معادلة التحدي وأطرافه، ويفضح محاولات طمس معالم تلك المعادلة والتستر على أطرافها الحقيقيين. إذ عندما سقطت الأقنعة وأزيح الستار، تبين للجميع أننا لسنا بصدد تنازع على السلطة بين المجلس العسكري والإخوان، ولا هو مواجهة بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية، ولكننا بصدد معركة كسر عظم بين الثورة والثورة المضادة. هدفها استكمال إسقاط النظام السابق تمهيدا لطي صفحته والتحلل من أثقال الماضي وأدرانه، للتفرغ لبناء المستقبل المنشود. إذا كنت في شك من أنها معركة كسر عظم، بالمعنى الحقيقي وليس المجازي، فتابع ما تبثه وسائل الإعلام التي يعشش فيها الفلول، وكيف تخوض المعركة بشراسة، أهدرت خلالها مختلف الأعراف المهنية والأخلاقية، واستخدمت في تحقيق مرادها كل الأساليب الهابطة والمرذولة لاغتيال أركان معسكر الثورة أدبيا ومعنويا. حين طالعت الصور التي نشرت أمس لإعلان تشكيل الجبهة الوطنية، كان السؤال الذي خطر لي كالتالي: أما وقد رأينا رموز معسكر الثورة يصطفون معا في ميدان التحرير، فما هي الرموز التي يتوقع أن نراها إذا ما التقطت صورة لرموز المعسكر الآخر؟ دعك من نزلاء مزرعة سجن طرة، فهؤلاء مفروغ منهم ومكانهم محفوظ، لكن سؤالي ينصب على أقرانهم الذين يعيشون بيننا، خصوصا أولئك النفر من السياسيين المحترفين وأقرانهم الذين يتصدرون بعض المنابر الإعلامية، الصحفية والتلفزيونية، ممن يصطنعون البراءة هذه الأيام، ويزايدون على الجميع في محبة الوطن والدفاع عن مصالحه العليا. سأترك لك مهمة ملء فراغ الصورة وأنتقل إلى سؤال آخر خطر لي هو: أين مكان المجلس العسكري بين الصورتين؟ ــ لقد قرأت في البيان الذي أصدره المجلس يوم الجمعة 22/6 أنه يقف على مسافة واحدة من الطرفين، لكنني لم آخذ الكلام على محمل الجد، ليس فقط لأن تعبير المسافة الواحدة جرى ابتذاله جراء تواتر استخدامه في التمويه والتدليس، ولكن أيضا لأن رسالة البيان كانت في مجملها تحذيرا وتهديدا لطرف دون آخر، ولأنني لا أظن أن في الأمر خطأ مطبعيا. فربما كانت الحجة فيه أنها مسافة واحدة حقا ولكن كل طرف له مقام مختلف عن الآخر. بالتالي فنحن بإزاء اختلاف مقامات وليس اختلاف مسافات.! لقد نجحت القوى الوطنية في اختبار إقامة الجبهة والتعالي فوق الأخطاء والمرارات، لكن جهدا كبيرا ينبغي أن يبذل لكي تواصل التقدم نحو تحقيق الهدف الذي شكلت من أجله ــ طوبى للوطنيين الذين تناسوا جراحهم وهبوا لإنقاذ الوطن من جرحه الكبير.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.