مرة أخرى – بعد عشرة أعوام – تعود كنيسة المهد إلى واجهة المشهد الفلسطيني، ففي 2002 كانت هذه الكنيسة موضوع معركة سقطت من ذاكرة كثيرين. ففي بيت لحم تبنت مجموعة مسيحية مسلحة، أشهرت باسم "سرايا الدفاع عن كنيسة المهد"، مسؤولية إطلاق نار أوقع جنوداً إسرائيليين جرحى قرب الكنيسة. وكاد الخبر الصغير يضيع وسط سيل الأخبار المتدفقة. وكان هذا جزءا من معركة أكبر وصلت إلى حصار الكنيسة وإبعاد المتحصنين داخلها. وعندما حوصرت كنيسة المهد بدا لكثيرين أن هذه أول صفحات المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي ومسيحيي فلسطين. رغم أنه منذ أن بدأ الاستيطان كان لمسيحيي فلسطين أدوار في عمليات المقاومة، فمثلاً في مارس 1948 تلقى الاستيطان درسا هو من أقسى ما وجه له على الإطلاق نفذها مسيحي فلسطيني هو أنطون داود. كان أنطون سائقا لدى القنصل الأمريكي بالقدس، وكان معروفا لرجال الهاجاناه وجعله عمله موضع ثقتهم، غير أنه كان موضع ثقة حركة المقاومة الفلسطينية التي كان عمادها آنذاك تنظيمات إسلامية. وذات صباح ركب سيارة القنصل الأمريكي واتجه إلى مبنى الوكالة اليهودية الذي كانت تحرسه قوات الهاجاناه وسمح له رجالها بالدخول دون أي إجراء أمني، ولم يتصور أحد أن في صندوق سيارته قنبلة وزنها مائتا كيلو جرام، واهتزت القدس بانفجار كبير. وعندما طلب من القائد المعروف فوزي القاوقجي أن يتولى مسئولية الدفاع عن يافا في المعارك التي سبقت إعلان قيام (إسرائيل) مباشرة وجد أن قائدها غير قادر على حمايتها عزله وأسند قيادتها إلى ميشيل العيسى، وتلك مجرد نماذج. وقد أسفرت معركة كنيسة المهد عن إبعاد عدد ممن تحصنوا داخلها بعد صمود 39 يوما منع عنهم خلالها الطعام والشراب فضلا عن قطع الكهرباء والماء والدواء. وما أطلقه قرار اليونسكو الأخير بشأن كنيسة المهد سيثير وجها آخر من وجوه الصراع التاريخي على فلسطين، ذلك أن البعد الديني في الصراع مرشح لمزيد من الحضور في المرحلة المقبلة، وفي عالم الأفكار والرموز ستكون هناك جولات يدور الصراع فيها حول معنى الصراع وصورته أكثر مما سيدور حول الأرض والحقوق القانونية والسياسية. وكثيرون يغيب عنهم أن (إسرائيل) هي مشروع لنفي الآخر، كل آخر، مسلما كان أو مسيحيا. وأنه مشروع عنصري تطفو على السطح فيه من آن لآخر ممارسات تكشف حقائق مغايرة لما مألوف أو لما تحاول (إسرائيل) أن يبدو مألوفا. ومن عالم الأفكار يمكن أن تستعار أدوات شديدة الفاعلية لمواجهة الخطاب الصهيوني، وبالتالي المشروع، فالتأكيد المبالغ فيه في بعض أدبيات الخطابين التحليلي والسياسي العربيين على "مفهوم التحالف المسيحي اليهودي" هو في الحقيقة مما تكشف عوراته أحداث مثل المعركة الحالية حول قرار اليونسكو بشأن كنيسة المهد. ومن النماذج التي توقفت عندها طويلا لأدبيات يمكن أن تعيد بناء صورة مفهوم التحالف المسيحي اليهودي في أذهاننا على نحو ينصف المسيحيين العرب ويكشف حقيقة أن التحالف هو صهيوني/ إنجلوسكسوني بروتستانتي، كتاب: "توليدوت يشُّو" (حياة المسيح) وكان متداولاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب. وتُبيِّن القصة أن "المسيح يتمتع بمقدرات عجائبية لأنه سرق أحد الأسماء السرية للإله من الهيكل اليهودي، ومع هذا ينجح أحد فقهاء اليهود في إبطال سحره! " وفي الكتاب تفاصيل أخرى أكثر بشاعة وقبحاً. وخلال القرون الوسطى كان هذا الكتاب يُسبِّب كثيراً من الحرج للجماعات اليهودية حينما تكتشف السلطات أمره، ولذا كان بعض الحاخامات يحرصون على تأكيد أن يسوع المشار إليه في الكتاب ليس المسيح، وإنما شخص يحمل هذا الاسم عاش قرنين قبل الميلاد. وقد أُعيد طبع كتاب "توليدوت يشو"، وتوزيعه على نطاق واسع في (إسرائيل)، ما يعني أنها تعيد بعث أسوأ ما في تاريخ الجماعات اليهودية. والكتاب المشار إليه واحد من الأدبيات التي نرى أن من المفيد التفكير في ترجمته إلى أكبر عدد ممكن من اللغات الحية لتحقيق أهداف عدة، أولها تأكيد الطبيعة الاستبعادية للثقافة السائدة في هذا الكيان، والمساهمة الجادة في إغلاق الأبواب أمام أي محاولة محتملة للسعي لبناء جسور مع المسيحيين العرب على قاعدة مفهوم "التحالف المسيحي اليهودي" الذي يستخدم كما لو كان مفهوما عالمياً. ولا يعني هذا أبدا أن المسيحيين العرب لديهم الاستعداد لأن يكونوا جزءا من هذا المفهوم، وتاريخهم في الدفاع عن الحقوق العربية يشهد بذلك بما لا يحتاج إلى من يدافع عنهم. ولتبق كنيسة المهد شامخة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.