اعتدت في كل عام في مثل هذه الذكرى أن أخط بعض الكلمات تذكرنا وليس منا من ينسى الأحباب وأهل الفضل أن أكتب في ذكرى رحيل العظماء .... مرت الذكرى في العام الماضي وكنت معتقلا فجلست مع الشباب أحدثهم عن من مضى وشغاف القلب يعشقهم وقلت في قرارة نفسي إن فرج الله كربي في العام القادم لن أترك الذكرى دون كتابة .. ولطالما قلت وسأبقى أردد أن الجمالين ومعهم لفيف من الشهداء في الضفة المحتلة لم يأخذوا حقهم ونصيبهم ولم يسجل تاريخهم، وكل ما كتب عنهم لا يرقى حتى الآن إلى مستوى تضحياتهم ولم يكتب بطريقه علميه بحثيه تاريخيه .. وإلى أن يأتي ذلك اليوم الذي نؤرخ ونسجل ونعيد كتابة التاريخ لمن صنعوا التاريخ أعود لنقل ما كتبته في مقال سابق عن الشهيدين لأني اليوم وأمام حاجتنا الكبيرة لأمثالهم أجد نفسي عاجزا عن الكتابة. أحد عشر عاماً هي التي مرت حتى الآن على استشهاد الجمالين رحمهما الله جمال منصور وجمال سليم ومعهما رفاق دربهما عثمان قطناني ومحمد البيشاوي وعمر منصور وفهيم دوابشة والطفلين وكأنها الدهر كله. قيل وكتب الكثير عن الجمالين بعد استشهادهما وأنشد من أنشد لهما وللوطن ولفلسطين واستعرض من كتب سيرة الرجال الأفذاذ من تاريخ تأسيس الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح مروراً بمرج الزهور وسجون الاحتلال وانتهاءً بانتفاضة الأقصى واعتلائهم منصة دوار الشهداء وتأبينهم القادة والأبطال وصولاً إلى ذلك اليوم الذي ضجت نابلس وفلسطين بقضها وقضيضها تسير خلف الرجال تعلي جثامينهم وتتوعد (إسرائيل). على صعيدي الشخصي لم أر في حياتي موكباً مهيباً كهذا الموكب ولم أر دموعاً وبكاء ونحيباً كما رأيته يوم استشهد الشيخان... رأيت الغضب في عيون الشيوخ والقادة سمعت عبد العزيز الرنتيسي وهو يبكي وينعى رفاق مرج الزهور ويتوعد (إسرائيل) ويهدد بقوله ستندم أيها الكلب شارون. سمعت الشيخ الراحل سعيد بلال ينحب ويبكي ويقول لقد فقدت حماس كنزاً ثميناً، ورثاهم في أبيات شعر تحرك القلوب وتبكي العيون وتدمي القلب، وقال بالحرف الواحد حماس بحاجة إلى وقت كبير حتى تنتج نموذجاً جديداً يشابه نموذج جمال منصور وسليم. ما أريد أن أسلط الضوء عليه من خلال مقالي هذا ثقافة التسامح التي كان يتحلى بها الشيخان الجمالان وعدم الكره والحقد والتماس الأعذار للآخرين والتسامي على الجراح والصبر والعض على الجرح وتغليب المصلحة العامة على الخاصة . سجن الشيخ جمال منصور في سجن السلطة الوطنية الفلسطينية أعواماً طويلة وصلت إلى الثلاث سنوات ونصف، وتنقل خلالها بين سجن أريحا والجنيد، وخاض خلال تلك الفترة إضراباً طويلاً عن الطعام، وتوفيت والدته وهو أسير ومعتقل سياسي، وقد التقيته أكثر من مرة في سجن الجنيد، لم أسمع منه أبداً أي كلمة تدعو إلى الحقد أو الكره أو إلى توجيه السلاح بل كان على الدوام يتحدث عن الوحدة وأهميتها وضرورة أن تكون أفعالاً لا أقولاً. خرج من سجنه بعد أن تفجرت انتفاضة الأقصى بهمة أقوى وعزيمة أمضى ونفس لا تلين وسار مع رفاق دربه ممن أصبحوا جميعهم شهداء وأسرى في تشييع الأبطال وتحميس الشارع وقيادة الانتفاضة وزرع الروح الوطنية القائمة على الوحدة والتآلف ونبذ الخلافات. استطاع الشيخ جمال منصور وجمال سليم أن يتجاوزوا جراح سجن الجنيد والتأسيس لثقافة تقوم على الشراكة وأن ما يجمع أكثر بكثير مما يفرق وأن يؤسسا تفاهمات تقوم على الحب والمعنى الحقيقي للشراكة. مدرسة الجمالين في التسامح والمسامحة وعدم السماح للحقد أن يتغلغل في النفوس وأن يتسرب للقلوب مدرسة عظيمة تدعو لها حماس وفتح وكل الفصائل ولكنها اليوم أصبحت مدرسة خالية من الطلاب والأساتذة فالأساتذة تم اغتيالهم والطلاب لم يعودوا يتلقون الدرس على أيدي مثل هذا النوع من القادة . ما أريد قوله وأنا أكتب هذه الكلمات في ذكرى الشهداء أن الشهداء هم من أبناء الحركة الأسيرة الفلسطينية ومن قادتها ومن كان لهم دور أيضاً داخل السجون في توعية الأسرى ونزع حقوق الحركة الأسيرة من بين براثن المحتل. وما أريد أن أنهي به مقالي هذا... لقد نجحت (إسرائيل) في إخلاء الشارع الفلسطيني من أمثال هؤلاء القادة والرجال وهو سبب رئيسي ومباشر لما وصلت له الساحة الفلسطينية اليوم من انقسام ولعن الأخ لأخيه وأزمة المصطلحات التي بتنا نحياها . رحم الله الشهداء وأسكنهم فسيح جناته وهنيئاً لهم أن اتخذهم الله شهداء ونسأل الله العلي القدير أن يجمعنا بمن أحبهم القلب لذكرى الدهر في جنات النعيم .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.