يقول المفكر الفرنسي أندريه فليب بأن الصراع هو المظهر الرئيسي لكياننا الاجتماعي. إن أي صراع في المجتمع ينعكس على الأفراد ويسبب لهم الضيق والالام والتأزم النفسي. لكن ليس كل ما يقوم به الكائن الحي من سلوك عبارة عن رد فعل للمؤثرات الخارجية وإنما يدل السلوك على أن هناك مجموعة من القوى أو الدوافع أو المحركات التي تدفع الكائن الحي للقيام بسلوك يرمي إلى تحقيق غرض معين. وقد جاء في كتاب (أسس الصحة النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي أنه كثيرا ما بحدث صراع ونزاع بين بعض هذه الدوافع أو النزعات المتعارضة.
لا يتحدث الكثيرون عن هذه الصراعات الداخلية، ولا يتفاخرون بذكر تخطيهم لها. لكن هذه الصراعات هي معاركنا الحقيقية كما يقول كريم الشادلي في كتابه (ما لم يخبرني به أبي عن الحياة)؛ وذلك لأنها معارك يكون للضمير فيها دور حاسم، في سياق يتعرض فيه جدار الضمير العام لمزيد الإلغاء أو الثقوب حسب تعبير الدكتور أحمد عكاشة في كتابه (ثقوب في الضمير).
ويعرف أحمد عكاشة الضمير (أو النفس اللوامة) بأنه الرقيب الخاص داخل كل إنسان أو الأنا الأعلى الذي يحاسب الإنسان في داخله حسابا عسيرا عما بدر منه من مماراسات وسلوكيات (مثل الرشوة أو الإنتقاص من حقوق الاخرين). والضمير، كما يرى مصطفى محمود، يدل على الوجود الروحي. إن الحياة ليست غير سلسلة من الصراعات ومحاولات فضها، والإنسان لا يستطيع أن يتخلص من نزعة التنازع؛ فالوجود البشري قائم على التضاد، وعلى التدافع المستمر كما عبر عن ذلك جاسم سلطان في كتابه (قوانين النهضة).
يقول علماء الإجتماع بأن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو من مشكلات. فالمشكلة تحفز الناس على معالجتها، وبهذا ينقسمون ويتصارعون. لكن المجتمع ينتفع من هذا الصراع كما يقول علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل العربي)؛ فالعدل لا يتأتى إلا إذا توازنت قوى الخصوم المتصادة. والتوسط في الطاقة والدوافع الغريزية يساعد على عمارة المجتمع كما عبر عن ذلك مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)؛ فعندما نلغي الطاقة الحيوية فإننا نهدم المجتمع، وعندما نحررها تحريرا كاملا فإنها تهدم المجتمع. لذلك يجب أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين.
في المقابل، النظرية الدروينية (التي نقلت الصورة التي رسمها داروين لتطور الأنواع الحيوانية إلى المجتمعات الإنسانية)، ترى أن كل فرد لابد أن يصارع الأخرين ليبقى. ولا يبقى إلا من هم الأفضل. فالانتقاء الطبيعي يكفل بقاء ونمو خيار الناس، وقد قال روبرت داونز في كتابه (كتب غيرت العالم) أنه كانت هناك تطبيقات لنظريات داروين لا شك في أنه إستاء منها، مثل ذلك الفاشية التي استخدمت فكرة الإنتقاء الطبيعي أو بقاء الأصلح لتبرير تصفية أجناس بعينها والحروب. لكن موريس دوفرجيه يرى في كتابه (مدخل إلى علم السياسة) بأن جميع الإيديولوجيات السياسية ترى أن الصراع يولد التكامل وأن التعارضات تتجه بها إلى الزوال ويؤدي إلى قيام نظام إجتماعي سليم. فالخلاف بين الغربيون والشرقيون في سرعة التطور من الصراع إلى التكامل، لا على التطور نفسه.
إن الصراع الذي تتسم به الحياة لا يمكن أن يؤدي إلا إلى التوازن ونظام جديد؛ فالحياة تجدد ذاتها عبر تعاقب حالة الفوضى (الصراع) وحالة النظام (التوازن). لكن عدم الوعي بحالة الصراع والتفسير الخاطئ لها قد يطيل من أمد الفوضى. فالمشكلة في غالب الأحيان ليس في وجود الصراع بل في عدم الوعي بوجوده وبأسبابه وبنتائجه، إن وجود فكرة واضحة شاغلة لذهن الفرد يوجه جهوده لتحقيقها، يساعد على الفصل بين النزعات المتصارعة، وهي التي تتوقف عليها قوة الشخصية ووحدة أفعالها؛ فالفكرة الإسلامية، كما يرى مالك بن نبي، هي التي طوعت الطاقة الحيوية للجمتمع الجاهلي لضرورات مجتمع متحضر.