تواجه جماعة ”الإخوان المسلمين“ دائمًا تصنيف أنها حركة ”دينية"، وتتبرأ منها دائمًا القوى السياسية ”المدنية“، وتعمل الجماعة بشكل مستمر على الدفاع عن نفسها لتؤكد أنها حركة مدنية، وأن كلمة مدنية تعني أنها غير عسكرية، ولكن تواجهها دائمًا النخب العلمانية بمفهوم مختلف وهو أن الحركة الدينية تسعى إلى الحكم الثيوقراطي وهو مخالف لمفهوم الحكم المدني.
نقف هنا عند سؤالين يجب الإجابة عنهما، أولهما هل الإخوان المسلمين - بوصفها حركة دينية - تسعى نحو حكم ثيوقراطي؟ وبناء على إجابة هذا السؤال سنجيب على سؤال آخر وهو هل الإخوان المسلمين في مصر جزء من المجتمع المدني أم مخالفة له؟
يوجد بالفعل في الحركات الدينية من يسعى إلى الحكم الثيوقراطي، من أبرز أشكالها تنظيم الدولة، والذي أقام حكمًا ثيوقراطيًا فعليا في مناطق من سوريا والعراق، وتنظيم القاعدة، وولاية سيناء وغيرها من التنظيمات التي تنتهج نهج جهادي أو تكفيري، وهي بالقطع لا تمثل جزءًا من أي مجتمع مدني، بل إنها تحاربه بشكل واضح ومعلن وقد تتطرق إلى تكفيره.
ولكن لم يثبت على منهج الإخوان المسلمين أنها تسعى إلى حكم ثيوقراطي، وممارستها للحكم لمدة عام في شخص الرئيس الراحل محمد مرسي -أيًا كان تقديرنا لنجاحها أو فشلها في الحكم- لم يتسم بالحكم الديني الشمولي، ولم تفرض ولاية عامة للفقيه، وتعاملت مع الحكم من خلال مؤسساته وسلطاته الثلاث الموجودة، وتعاملت مع مؤسسات المجتمع المدني، وأشركته في صياغة دستور 2012، ولم يطرأ أي جديد في دور المؤسسة الدينية في الدولة بدءًا من وزارة الأوقاف مرورًا بدار الإفتاء انتهاءا بالأزهر وهيئة كبار العلماء، ونص دستور 2012 الذي صيغ وُصوت عليه في عهد حكم الإخوان على شكل وآليات الحكم المدني الديمقراطي وتداول السلطة، وفصل السلطات.
وبالتالي فإن الإخوان كحركة إسلامية - حركة دينية - لا تسعى إلى الحكم الثيوقراطي، وتعمل بشكل فعلي الآن في مواجهة الحكم العسكري، لذا فإن تصنيف الإخوان كحركة رافضة للحكم المدني أو تسعى لتأسيس حكم مغاير له هو قول غير مبني على دلالات فكرية أو عملية حقيقي، ولكن هل يعني أن الإخوان لا تعارض الحكم المدني، أنها جزء من المجتمع المدني للدولة؟
يدفعنا هذا السؤال الى الإجابة من جديد عن ماهية المجتمع المدني، فالمجتمع المدني هو كل التشكيلات والمكونات التطوعية التي يؤسسها أفراد من المجتمع لتعبر عن شرائح أو مجموعات من مكونات المجتمع، ولا تهدف للربح، وتعمل تلك المؤسسات وفقًا للنظام العام ودستور الدولة وتعبر عن طموحات أو أهداف أو مشاكل شرائح أو فئات، ومن أبرز أشكال مؤسسات المجتمع المدني هي النقابات المهنية والعمالية والأندية والجمعيات والأحزاب والمنظمات الأهلية والخيرية والاجتماعية والثقافية والحقوقية.
وفي إطار ماهية المجتمع المدني ودوره الأساسي في أن يكون حلقة الوصل بين الأفراد وبين الدولة وسلطاتها، والدفاع عن حقوق المجموعات والفئات في المجتمع وتمثيلهم أمام الدولة، فإن جماعة الإخوان المسلمين في رأيي لم تخرج عن مكونات المجتمع المدني، فهي لم تخرج عن الدستور على مر تاريخها إلا بعد انقلاب 2013، وهو ما خرج عنه الكثير من الأحزاب والقوى المدنية، فهو دستور صيغ على دماء ورفات المصريين، وُصوت عليه في عملية انقسام مجتمعي حقيقي وموثق، فإن خرجت الإخوان من تكوين المجتمع المدني لرفضها لدستور 2013، فعلينا أيضًا أن نخرج تكوينات أخرى مثل الاشتراكيين الثوريين وحزب غد الثورة وحركة 6 إبريل وغيرها من المكونات البارزة للمجتمع المدني المصري، وغيرهم المئات من المنظمات الأهلية التي امتنعت عن المشاركة في النقاش المجتمعي حول الدستور ولم تعلن موقفها خوفًا من البطش الأمني.
الإخوان المسلمين تمثل فئة من المجتمع، لهم مطالب خاصة بالقيم الدينية، ولهم نظرة في الحكم ”المحافظ“، ولا يمكن تصنيفهم كمجموع خارج عن المجتمع المدني، لأنهم في الأساس قبلوا بالعمل وفق آليات الدولة المدنية وضوابط المجتمع المدني، وتقدموا لتجربة الحكم عبر الانتخابات والآليات الديمقراطية، وأصبح لهم ممثلين في مختلف منظمات المجتمع المدني منها النقابات العمالية والمهنية، والجمعيات الأهلية والخيرية.
لذا فلا يمكن تقييم انتماء منظمة ما إلى المجتمع المدني وفقًا لموقفها السياسي، ولكن يجب أن يتم ذلك من خلال تقييم منهجها وممارساتها العامة، ولا يجب اعتبار العمل في المساحة الثورية - الرافضة للدستور ونظام الحكم القائم - خروج عن خصائص المجتمع المدني، فالمجتمع المدني معبر عن آراء ورغبات ومصالح الأفراد، فإن اتفق الافراد على حتمية الثورة ضد الدستور القائم والسلطة الحاكمة فوجب على مؤسسات المجتمع المدني أن تعبر عن تلك الرغبة.
نعود هنا إلى علاقة الإخوان والنخبة العلمانية والمجتمع المدني، فهناك محاولات مستمرة لترسيخ أن الحركات الإسلامية خارجة عن المجتمع المدني، وأن فقط التنظيمات التي يسيطر عليها أو يعبر عنها نخب علمانية هي الممثلة للمجتمع المدني، وهو ما ينافي في الأساس فكرة تشكيل المجتمع المدني، فالأفراد - وهم كُثر - المهتمين بقضية القيم الدينية ونظرة الإسلام للمعاملات الاقتصادية والجوانب الاجتماعية - ويعملون لتشكيل كيانات تعبر عنهم وأفكارهم ورؤاهم هم جزء من أفراد الشعب، ولهم الحق في أن يكون لهم كيان جامع معبر عن أفكارهم وآرائهم، ويشتبكوا بأفكارهم مع المنظمات الأخرى المختلفة، ويعود الحكم في النهاية إلى مجموع الشعب، وهو ما ارتضته جماعة الإخوان المسلمين فعليًا عشرات المرات.
وتدفعنا تلك الفرضية إلى السؤال، هل إذا حصل أعضاء من جماعة الإخوان على أغلبية الأصوات داخل أي تنظيم نقابي أو أهلي وشكلوا مجلس إدارتها، وتمكنوا خلال فترة من الزمن إقناع أعضاء تلك المنظمات بأفكارهم، هل ستخرج تلك المنظمات أيضاً من منظومة المجتمع المدني؟
المجتمع المدني هو منظومة لها آليات وضوابط، أيا من التزم بها فهو جزء منها حتى وإن اختلف كليًا فكريًا مع المنظمات الأخرى، طالما أنه قبل بالعمل وفقًا للقواعد والعقد الاجتماعي الموجود، حتى وإن كان لديه أهداف خاصة بتغيير هذا العقد الاجتماعي أو تطويره.
فعلى سبيل المثال الكثير من التيارات اليسارية ترفض العقد الاجتماعي الحالي في مصر، بل وبعضها يحمل رؤية للتغيير تحتم تفكيك المؤسسات الأمنية القائمة، وإلغاء الدستور واستبداله بدستور قائم على تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الرأسمالية، وإعادة توزيع الثروات في المجتمع، وبالتالي فإن أفكارها هي أفكار خارجة عن الدستور القائم، وعن القانون الحالي، وعن مجموع أفكار أغلب منظمات المجتمع المدني، ولكنها تعمل في إطار ضوابط العمل المدني، ولم يطالب أحد بإبعادها عن تكوين المجتمع المدني.
أخيرا فإن المجتمع المدني في مصر به من الضعف ما يكاد يميته، ومن الأفضل للجميع أن يتم إدماج كافة المنظمات الفاعلة في المجتمع المدني والتوقف عن أقصائها فكريًا وعمليًا، فالإقصاء يولد المزيد من الضعف والتشرذم ويضيف في قوة السلطة التي تتمكن مع ضعف المجتمع المدني من سحق الأفراد وفرض السلطة الجبرية، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد قائم على السخرة والتفزيع وتقزيم دور الأفراد والمجتمعات لصالح السلطة العسكرية.