نشر الصحفي الأمريكي إدوارد هنتر مقالا كان مبحثا أساسيا فيما بعد حول غسيل الدماغ، الذي استخدمه الصينيون بعد أسرهم لجنود أمريكان في حرب الكوريتين، الجنود الذين لوحظ عليهم تغير في نمط التفكير والتعاطي مع قضايا حساسة للأمن القومي الأمريكي، واستخدم الصحفي مصطلح غسيل الدماغ، الترجمة الحرفية للمصطاح الصيني هسي نو، أو إعادة التثقيف والتشكيل الإيديولوجي الذي لا تزال الصين تمارسه على شعبها، أما علم النفس الهولندي جوست ميرلو فقد فضل استخدام مصطلح قتل العقل، أو Menticide باللاتينية، وإن كان المصطلح قد ظهر حديثا إلا أن ممارسته قديمة جدا ولعل أفضل مستخدميها الحسن الصباح الذي سيطر بخليط من التأثير الإيحائي والتغييب العقلي على رجال كانوا ينفدون مهمات انتحارية ضد ملوك وقادة جيوش، الغسل الممنهج للدماغ تطلب التفرع بعد ذلك إلى البرامج التعليمية والترفيهية والإعلامية خاصة، والنظريات السيكولوجية التي استغلت فيما بعد إعلاميا تركز على آلية عمل الدماغ البشري المركز دوما على آلية البقاء معتمدا الخوف والتفكير السلبي للنجاة، فكان المحتوى الإعلامي عموما يركز على هذه الآلية الطبيعية لجدب المشاهد مما يساهم في ترفيع نسب المشاهدة وترجمة المشاهدة إلى إعلانات وبالتالي إلى أموال.
تشاهد القنوات الغربية فتجد جيوشا من المراسلين الذين يجوبون العالم مصورين للمآسي والحروب، مشاهد صادمة قد لا يقوى إنسان طبيعي على متابعتها، لكن تقنية الترقيم والتدقيق ساهمت في الاعتياد على المشاهدة، بمعنى تحويل المشاهد إلى أرقام في شريط الأخبار مع تكرار البث يوميا، والتركيز فقط على الضحايا من الحروب سواء الأهلية أو النظامية بين الدول، مما يعطي انطباعا راسخا بأن الأعداد البشرية التي قضت نتيجة الحرب هي في ازدياد مستمر، دون التنبيه إلى أن الخبر قد أعيد بثه.
التركيز الممنهج على الترقيم في الصراعات الأهلية يخفف إلى حد ما من التبعة الأخلاقية الموجودة أصلا في السلوك البشري عندما يخص الأمر الشريك البيولوجي الإنساني، فيصبح الأمر لا يعني المشاهد لتلك المآسي طالما ان الأمر يبعد عنه آلاف الأميال، وفي نفس الوقت يحافظ على نسب جيدة من الخوف من مصير مماثل، تستغله الحكومات من أجل تبرير الحروب الاستباقية ضد دول تبعد آلاف الأميال، كما بررت آلة الدعاية البدائية في بلجيكا عندما أرادوا احتلال إمبراطورية الكونغو بتصوير شعبها بأجسام بشرية تعلوها رؤوس كلاب، تدليلا على عدم آدميتهم الكاملة وقصورهم الإنساني، وهو ما استغلته أمريكا وفرنسا أيما استغلال ناجح ضد الهنود الحمر والشعوب الإفريقية.
نحن نواجه عصرا مدمرا من الحروب والمجاعات المدمرة، الحروب التي تودي بحياة مئات الآلاف من الناس والمجاعات كفيلة بإنهاء الباقي، هذه خرافة والأرقام تؤكد ذلك، ليس تخفيفا من هول ما يجري في عالم اليوم، لكن مقارنة بسيطة بين الحروب في النصف الأول من القرن العشرين ونصفه الثاني تبرز بوضوح كيف أن هذا العصر هو آمن من كل سابقيه وعلى كل المستويات.
الحروب تعرف دوما بأنها صراعات بين جماعتين، تغديها جماعات أخرى لها مصالح في قيام أو استمرار تلك الحرب، والضحايا فيها من الجانبين لا يعتبران ميزانا للنصر أو الهزيمة، لكن للتدليل على أن حالة البشر أفضل يجب الإشارة إلى أن مجموع من قتل في الحرب العالمية الأولى والثانية يتراوح بين الخمسين مليونا والسبعين مليون إنسان، دون احتساب المعاقين والمرضى النفسيين والمجانين والمنتحرين، وبالرغم من أن الدول التي تحاربت تعد على الأصابع إلا أن الإستقلال الذي حدث عن تلك الدول الامبراطورية يجعل عدد الدول المشاركة في الحرب يقدر بأكثر من سبعين بلدا، انجر عن الحربين زلزال جيواستراتيجي مدمر للخريطة العالمية مما أدى إلى نشوب الحروب الأهلية بين الجماعات الإثنية والعرقية والطائفية في ظل الحرب الباردة.
ويصح القول بأن مدة الحروب الأهلية ارتفع من عام 1950 من 5 سنوات إلى 15 عاما بحلول عام 2000، وكانت أقل دموية وفتكا بالجنس البشري، لكن بعد فظاعات رواندا والبوسنة والعراق شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين انخفاضا في عدد الحروب الأهلية الكبرى، بجهود الوساطات الدولية المكثفة. ووفقاً لإحدى الدراسات، كانت احتمالات أن تنتهي الصراعات الداخلية في أواخر الحرب الباردة بانتصار عسكري أكثر بسبع مرات من احتمالات التوصل إلى تسويات سلمية. غير أنه بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تم عكس هذه النسبة: فاحتمال انتهاء النزاعات الداخلية بتوسيات سلمية بات أكثر بخمس مرات من الانتصارات العسكرية. وهكذا، بدأت حوالى 47 بعثة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة أعمالها بين 1991 و2011، أي أن عددها تجاوز بما يقارب ثلاث مرات ما كان عليه خلال العقود الأربعة السابقة.
هذا عن الحرب أما على المستوى المعيشي، الصحي والغدائي فيكفي فقط أن تشاهد حجم التهويل الذي يمارسه الإعلام أثناء ظهور أي مرض وبائي، بالتركيز دوما على الخوف والسلبية المتجدران في الغريزة الإنسانية، فالتطور الهائل على المستوى الطبي أصبح بإمكانه الحد من سقوط الضحايا جراء انفولنزا حيوانية مثل انفولنزا الخنازير، ففي عام 1918 اجتاح فيروس H1N1 العالم، وسمي حينها بالانفولنزا الإسبانية الذي قدر عدد ضحاياه بـ 50 مليون إنسان، والذي تقريبا مس كل دول العالم، والاجتياح الثاني للانفولنزا عام 1957 وسمي الانفلونزا الآسيوية والثالثة انفلونزا هونغ كونغ عام 1968 اللتان حصدتا أرواح أكثر من مليوني إنسان، وتتشابه جميع موجات وباء الإنفلونزا في أصولها، إذ بدأ كل وباء كما تقول جيسيكا بيلسر، التي تعمل في إدارة الإنفلونزا بمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بالولايات المتحدة: "أصبحت أنظمة الرعاية الصحية وأدوات تشخيص الأمراض وعلاجها أكثر تطورا بمراحل عما كانت عليه في مطلع القرن العشرين". لا شك أنه لولا القفزات الهائلة التي شهدها الطب خلال القرن العشرين لما تمكنا من فهم كيفية تطور الفيروس إلى وباء واسع الانتشار، إذن لا وجه للمقارنة بالطبع بين حصيلة ضحايا جائحة الإنفلونزا التي وقعت عام 1918، وبين عدد ضحايا الجوائح اللاحقة.
المجاعات الكبرى في وقتنا الراهن والمقدر أعدادها بالملايين وما تنتج عنها من مآس للعامل البشري اليد الطولى فيها ليست الأسوأ حتما، فقد ساهم الجيش البريطاني في القرن التاسع عشر في تقبيص سكان الجزيرة الإيرلندية بنسبة 25 بالمئة، في أكثر الجرائم الممنهجة ضد شعب بأكمله، والحالة اليمنية تشبهها كثيرا، حيث منع الأسطول البريطاني وصول المساعدات لإيرلندا مما أدى إلى مقتل 1.5 مليون إنسان، وهجرة مليونين آخرين بحثا عن الطعام، تليها من حيث البشاعة ما قام به البلاشفة بإجبار الفلاحين الروس على التخلي عن محاصيلهم لصالح الجيش، ووصل عدد الوفيات الإجمالي سنة 1921 إلى 5 مليون شخص، ليتكرر الأسوأ بين عامي 1932 و1933 حين حول ستالين المزارع الفلاحية إلى تشاركيات وإلزام الفلاحين وأسرهم بدفع كامل المحصول للدولة فأدى ذلك إلى موت 10 مليون إنسان، أما أسوأها على الإطلاق مجاعة الصين الكبرى التي راح ضحيتها حوالي 30 مليون إنسان، قضوا بعد إقدام الحكومة على تهجير الفلاحين للعمل في المصانع واستحواد الدولة على الأراضي ومحاصيلها.
هذه الأحداث المأساوية في حدوثها الآني تصيب الإنسان حتما بالصدمة والخوف وهو ما يستغل حتى على مستوى الجرائد التي لن تبيع نسخها دون ملأ صفحاتها بالأخبار المبالغ في التركيز عليها، فمن يطالع الصحف اليوم يجد عشرات الأخبار عن إطلاق النار والقتل والتقطيع لدرجة أصبحت القنوات لا تستغني عن برامج الجرائم وإعادة إنتاج أحداثها دراميا لضمان ارتفاع نسب المشاهدة، هذا الذي يسمى غسلا للدماغ البشري يحارب حتما ليس بتجاهل تلك المحتويات، أو دفن الرأس والتغاضي عما يحدث حولنا خاصة في الدول التي تجري فينا نفس الدماء، بل بتمييز المحتوى وعدم التركيز على السلبية الموجودة فيه، والانكباب على القراءة أو الترفيه الذاتي عن النفس وعيش ما تبقى من العمر في سلام دون خوف مركز على عقولنا التي تتعود بسرعة، الأخبار التي تقود إلى الخوف والرهبة من العالم موجودة فعلا لكن ما جدوى الانغماس فيها إلا العزلة وبعض الاكتئاب في حين يحتاجك مجتمعك للمساهمة في جعل العالم مكانا أفضل.