في الآونة الآخيرة أصبح العالم يدور في فلك الرقمنة والإنترنت ومواقع التواصل والتنافس الاجتماعي، العالم بات مختلف عما أعتادنا عليهِ في العقود التي مضت، وسبقت ظهور الهواتف الذكية والحياة المثالية لشخوص السوشيال ميديا. هذا مفكر وتلك مدونة موضة وهذا باحث وفيلسوف، وتلك تستعرض أسفارها ورحلاتها برفاهية وغيرهم الكثير ممن تعددت منتجاتهم وأفكارهم وطروحاتهم وآرائهم حول كل شيء فهذا ينصح بما يجهل، وتلك تدعي ما لا تفعل. فيما يتابع هؤلاء قبيلة من الشباب والمراهقين متأثرين بالهامش المِثالي الذي يقوم أصحابهُ بمشاركتهُ وتصويرهُ على صفحاتهم التي تعج بالإعجابات والتعليقات.
يُبدون إعجابهم بهذهِ الحياة التي تستعرض أمامهم محاولين تقليدها أو السعي لعيش شيء مشابه لها، معتقدين إنها حياة كاملة لا تشوبها شائبة ولا تَحول بينها وبين سعادة تليها سوى لحظات مِثالية من الراحة والإيجابية والطموح والربح؛ الكثير من الربح من جمال مثالي يستعرضهُ هؤلاء المشاهير لكنهُ مغلف بفلاتر متعددة تحاول أن تؤكد أنها تعكس الحقيقة لا شيء سوى الحقيقة. ما تقدم ليس هجوم على هؤلاء السادة المؤثرين حاشاهم من النقد فكل نقد بالنسبة لهم وكل من يسدي نصيحة أو يصحح فعل يعتبر من أعداء النجاح! النجاح على مقاييس شخصية وحياة خاصة لا تتجاوز حدودهم المحمية بغرور ونرجسية وزهو بالنفس لا يظاهيه شيء.
الأمر لم يبقى حصرًا على الفاشنيستا وخبيرة التجميل وأتباعهم بل تجاوز ليصل إلى الشخصيات التي تعتبر ذات مكانة علمية وفكرية واجتماعية. حتى الإيمان بالمعتقد والدين والدنيا والخير والشر بات نوع من الفلسفة يطرحها أصحابها كُلًا حسب فكرهُ ومعتقدهُ بثقة كبيرة ويقين تام، تجعلهُ يؤكد أنه الصواب بجمهورهُ الذي يتابعهُ مؤيدًا لكل ما يقول دون نقاش أو دليل فالتجارة أصبحت بأوجه متعددة ووسائل التواصل وسيلة تسويق ذات تأثير عالٍ.
فيما ترى الأخصائية في علم النفس الدكتورة نور المعلا بعد سؤالها عن تأثير السوشيال ميديا على المجتمع والأفراد أن لمواقع التواصل الاجتماعي عدة جوانب بعضها إيجابي كأكتساب المعرفة والتواصل مع أقرانهم في مجتمعات آخرى تعزز لديهم فكرة تقبل الآخر؛ لكن للجانب السلبي أثر أكبر خصوصًا على الشباب، على الرغم إنها تفتح مجال واسع لهم للتعبير بحرية عن آرائهم ورغباتهم لكنها تساعدهم في خلق عالم خاص يشبه ما يرغبون أن يعيشوه على أرض الواقع مما قد يؤدي إلى أصابتهم بحالة عُزلة عن محيطهم.
وأضافت المعلا أن الأولوية بالنسبة لهؤلاء الأشخاص لعالمهم الافتراضي لتحقيق ذواتهم وتطلعاتهم متأثرين بأقران آخرين في محاولة السعي الدائم للظهور بصورة مثالية عن طريق مشاركة صورهم وأهم أحداث حياتهم في أنتظار التعليق عليها والإعجاب بها من قبل أصدقائهم ومعارفهم. كل ذلك يجعلهم يعيشون تحت ضغط نفسي من الترقب والقلق دائم ومع كل تفاعل يصل إليهم يشعرهم بالأمان وتحقيق الذات الوهمي بعد إعجاب الآخرين بالصورة التي يعكسونها عن حياتهم وهذهِ تعتبر من الحالات الأكثر شيوعًا في المجتمع وتصيب فئة المراهقين والشباب من كلا الجنسين.
فيما كشفت أحدث الدراسات في علم النفس أن الفئة الأكثر تأثرًا بما يعرض على مواقع التوصل الاجتماعي هم من النساء ففي حال شاهدن إحدى الشخصيات تقوم باستخدام منتج أو ترتاد مكان معين أو تتبع أسلوب ونظام حياة معين يتفاعلن مع ما شاهدن من خلال الشراء أو الذهاب لذات الأماكن وتصويرها ونشرها للآخرين لتحقيق حالة إشباع نفسي والشعور بالرضا.
ختامًا لابد لنا أن لا نسعى ونطمح لأن نكون نسخة من حياة أشخاص آخرين ولا نتأثر ونصدق كل ما نقرأه ونشاهده من خلف الشاشات من خلال هؤلاء الأشخاص الذي يطلق عليهم بالمؤثرين فهم بشر معرضين للخطأ، وأن نستخدم هذهِ الوسائل فيما ينفع كنشر الوعي والعلم بصورة تجعلنا نحافظ على القيم الإنسانية الخاصة بنا كأشخاص مستقلين ولا نكون مجرد نسخة مكررة ومشابهة لغيرنا.