إن الكتابة خليط مركب من عدة معارف ومشاعر وأحاسيس تمتزج مع بعضها لتصوغ لنا مقالا أو كتابا في فن من الفنون، ولا تكون الكتابة متينة المبنى واضحة المقصد إلا إذا غُذّيت بالقراءة الكثيفة، وهنا لا نقول بأنّ الكتابة مجرد نقل عن كتابات الآخرين ولكنها تفتح في ذهن الكاتب أبوابا كانت موصدة لولا القراءة، وتثري قريحته بسيل من المصطلحات التي تضفي على أسلوبه مزيدا من الروعة والحماس.
إننا نكتب لنخرج الأحاسيس التي بداخلنا، التي تتصارع في ذواتنا ولا نعرف كيف نعبّر عنها بالكلام الشفوي، أو بالخطابات المباشرة، فالكتاب ما في قلوبهم على أقلامهم وليس على ألسنتهم إلا ما ندر منهم، فلا عوض لنا عن الكتابة، فالكلمات في كثير من الأحيان تنساب بطريقة يتعجب منها حتى الكاتب نفسه، فهي تتراقص على أوراقه أو صفحة الوورد التي يخيط عليها ما تنتجه بنات أفكاره.
لقد قال آرثر شونبهاور ذات يوم بأن الكاتب الحقيقي هو الذي لديه القدرة على الكتابة بشكل عفوي بدون توقف أو كثرة ايحاءات وغموض في ما يكتبه، فهو يرى بأن الكتّاب قليلي البضاعة في الأدب والعلم هم الذين يعمدون الى تعقيد مؤلفاتهم ليظهروا في ثوب المتمكن من فنّه، وليشعر القرّاء بأنهم قاصرو الفهم ضعيفو الامكانيات التي تؤهلهم لفهم ما يكتب أولئك الكتاب، وكل ذلك مجرد تحايل ومراوغة لا تفضي الى انشاء عمل يصلح تقديمه للقراء ولكنها مجرد كلمات غريبة توضع هنا وهناك مع عدم تناسق بينها وبين الأفكار، لأجل تعقيد المهمة على القارئ، وجعله يشعر بأنه يحل معادلة رياضية أثناء قرائته، وغالبا ما ينتهي من الكتاب مثلا وهو لم يخرج بفكرة واضحة، أو جملة صريحة تشبع نهمه وحبه للقراءة والاستزادة من المعرفة.
إننا نكتب لننقل للآخرين أفكارا نعتقدها أو للتو اكتشفناها فنسارع الى تقييدها بالكتابة خوفا من فلتانها من أيدينا، اننا نكتب لنرتقي بالوعي لدى الشعوب والأفراد ونأخذ بأيديهم إلى سفينة النجاة التي تتلاعب بها أمواج الضياع والشتات والعبثية، وأننا هنا لا ندّعي العصمة والمعرفة للحق ولكنه اجتهاد فقط، فما لا يدُرك كله لا يترك جُلّه.
وفي كتاب قواعد لتوجيه التفكير لديكارت يؤكد بأن كافة العلوم مترابطة فيما بينها لتشكل الحكمة الانسانية بوصفه، ولكن البشر و"المدرسانية" بالخصوص هم الذين عقّدوا الأشياء، وابتعدوا عن العلم الواضح اليقيني الى التخمينات والأفكار التي لا تنفع، يفيدنا كلام ديكارت في أنّ الكتابة كونها وسيلة لنقل العلم والمعرفة يجب أن تتسم بالوضوح والجلاء، لأنّ هدفها الرئيسي إرشاد القارئ وتزويده بوسائل المعرفة واحاطته بما يدور حوله في العالم المتقلب، فإن أضيف لهذا الهدف كثرة التشغيب والتخمين والسفسطة فستحيد الكتابة عن مرادها على أية حال.
انني في الحقيقة من ذلك النوع من الكتاب -لا زلت في بداية المشوار- الذين لا يأبهون لتنميق الكلمات واضفاء الطابع الأدبي الخالص عليها، ولكن ما يهمني أن أوصل أفكاري متلسلة واضحة للقارئ، فما لي وللاستعارة والجناس والطباق واستخدام كلمات مبهمة أو عتيقة يصعب على شباب جيلي فهمها، ربما هناك كتاب تخصصهم الأدب ومن حقهم استعمال كل ما هو محظور بالنسبة لي ففي ذلك فائدة بلا شك للحفاظ على النسيج الأدبي العتيق حتى لا يندثر، ولكن لكل وجهة هو مولّيها وكل واحد آخذ عنان فرسه في مضمار الكتابة.
وأختم بأنّ من يكتب سيجد ذهنه ينقدح بعشرات الكلمات التي تتزاحم لتجد موطأ قدما لها مع ما سيسطّره الكاتب، ولكن الكاتب الحقيقي ينتقي الأفضل والأيسر من بينها ليعبّر عن مكنونات خاطره أو معرفته التي تتلجلج داخل عقله وتطمح لترى النور وتجد محلا لها في معترك الفكر والعلم المنتشر اليوم، فالذي يكتب يكون في مواجهة مباشرة مع الانتقاد وحتى السخرية والانتقاص ممن همّهم تحطيم الآمال وتدمير نفسية الكتاب خاصة الناشئين منهم، ففي عالمنا العربي على عكس ما يحدث في الدول الأخرى تسعى طائفة معينة من الكتّاب الى جعل الكتابة رافدا تابعا لهم، لا حق لأحد آخر في منازعتهم فيه، فيحتكرون سوق الكتابة ولا يسمحون للمبدعين من الشباب بالتألق والانتاج الفكري خوفا على منافستهم في الشهرة و الصيت، بل حتى الأرباح!