11.12°القدس
10.88°رام الله
9.97°الخليل
14.97°غزة
11.12° القدس
رام الله10.88°
الخليل9.97°
غزة14.97°
الخميس 26 ديسمبر 2024
4.58جنيه إسترليني
5.15دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.65دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.58
دينار أردني5.15
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.65

خبر: نعى الثورة بين الاجتراء والافتراء

دعو إلى التفرقة بين شيطنة الإخوان وبين نعى الثورة فى مصر. إذ الشيطنة فى أحسن فروضها من قبيل الاجتهاد فى الفروع، أما نعى الثورة فهو فى كل أحواله إنكار للأصول وافتراء على الحقيقة. (1) أفرق فى هذا الصدد بين ثلاثة أصناف من الناس: المحبطين والناقمين والشامتين. الأولون رفعوا عاليا سقف توقعاتهم بعد نجاح الثورة، وظنوا أن الربيع سوف يستصحب الجو البديع الذى فى ظله يتغير بسرعة لون الحياة، من كآبة القاتم إلى بهجة البمبى (مع الاعتذار للأغنية الشهيرة). هؤلاء يعذرون إذا استبدت بهم الحيرة واحبطوا، خصوصا أن ما تبثه وسائل الإعلام فى مصر يدفع بقوة فى ذلك الاتجاه. أما الناقمون فقد دب اليأس فى نفوسهم منذ اللحظات الأولى التى أدركوا فيها أن المجتمع تخلى عنهم ولم يمنحهم ثقته. ولذلك فإنهم منذ ذلك الحين وضعوا نظارات سوداء على أعينهم وما برحوا يرددون فى كل حين أن الحلم صار كابوسا وأن الثورة أجهضت وانتهت، لا لشىء إلا لأن أحلامهم الخاصة لم تتحقق. حتى إن إحدى الصحف تحدثت عن فشل رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل فور إعلان اسمه وقبل ان ينتهى من تشكيل وزارته! دائرة الشامتين أوسع من المحبطين والناقمين، وأقصد بهم أولئك الذين ينتظرون الأخطاء والعثرات، فيتصيدونها وينفخون فيها ويعممونها، ليصوروا للملأ ان الثورة، وكل ثورات الربيع العربى كانت بلاء حل بالأمة، تمثل فى سلسلة من الكوارث التى تعاقبت على المغرب والمشرق، حتى قرأت لأحد الكتاب الكويتيين قوله ان ما شهدته المنطقة هو «خراب» عربى ليس أكثر! لك أن تتصور أن ذلك رأى «الفلول» من أركان ومنتفعى النظام السابق، وهو أمر قد يكون مفهوما، إلا أن ما يثير الانتباه فى هذا الصدد ان ذلك أيضا موقف بعض «الأشقاء» سواء لأنهم ارتبطوا بمصالح خاصة مع النظام السابق، أو لأنهم خشوا من أصداء الربيع فى أقطارهم. وهى الأصداء التى ظهرت بقوة فى تعليقات تويتر وفيس بوك، وقوبلت باستنفار الأجهزة الأمنية فى تلك الدول، الأمر الذى انتهى باعتقال بعض المثقفين الناشطين وإسقاط الجنسية عن المواطنين منهم، إلى جانب تلفيق التهم لهم ومحاكمتهم بدعوى تشكيل تنظيمات سرية والسعى لقلب نطام الحكم، وهو ما تابعنا بعض تفاصيله فى الأسبوع الماضى. لا أتحدث عن جماهير تندرج تحت هذا التصنيف أو ذاك لأن الأمر أهون من ذلك بكثير. إنما أتحدث عن نخب عالية الصوت بعضهم من المثقفين المتحزبين، والبعض الآخر ممن ينتسبون إلى أهل السلطان الذين أغراهم الفراغ العربى بمحاولة التمدد والبحث عن أدوار فى الساحة بعدما غاب عنها الكبار. (2) واهم من يتصور أن الثورة المصرية بلا أخطاء، أو أنها ولدت كاملة الأوصاف. وقد دعوت فى الأسبوع الماضى إلى الاعتراف بأننا جميعا ــ وبلا استثناء ــ مشوهون من تجربة الثلاثين عاما الأخيرة التى اقترن فيها الاستبداد بالفساد. وأى متابع لوسائل الإعلام المصرية طوال الثمانية عشر شهرا الأخيرة يستطيع أن يضع يديه على قائمة النواقص والثغرات فى الواقع المصرى. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن إعلامنا ظل طول الوقت يتفنن ويبالغ فى استعراض النصف الفارغ من كوب الثورة، الأمر الذى صور للبعض أنه ليس للكأس نصف آخر، وكان ذلك أحد مصادر الإحباط الذى سبقت الإشارة إليه. ولأن النصف الفارغ أخذ حقه وزيادة، فربما كان من الإنصاف أن نلقى نظرة على النصف الآخر المحجوب والمسكوت عليه. قبل نحو ثلاثة أسابيع (فى 9/9) نشرت صحيفة التحرير تعليقا لافتا للانتباه لزميلنا الأستاذ طارق الشناوى، قارن فيه بين لقاء المثقفين للرئيس محمد مرسى فى 6 سبتمبر الحالى، وبين لقاء عشرة منهم مع الرئيس السابق قبل ثلاثة أشهر من خلعه (فى 30 سبتمبر عام 2010). وذكرنا بأن ثلاثة ممن حضروا اللقاء مع الدكتور مرسى كانوا ممن وقع عليهم الاختيار لمقابلة الرئيس السابق. وقال إن الثلاثة الذين التقوا الدكتور مرسى انتقدوه، وقالوا له: «إنه يتحدث عن مدنية الدولة فى حين أن ما يجرى على أرض الواقع يؤكد أن الدولة تتجه فى كل مظاهرها نحو الأخونة». وقارن الأستاذ الشناوى بين جرأتهم فى مواجهة الدكتور مرسى. وصمتهم أثناء لقاء الرئيس السابق، وكيف أن بعض المثقفين قالوا فى حضرته كلاما يخجل المرء من ذكره الآن، ومنهم من ظهر فى أحد البرامج التليفزيونية بعد اللقاء، وظل يمتدح الرجل ويتغزل فى خفة ظله وتواضعه. فى حين أنه لم يكن بمقدور أى واحد منهم أن يفتح أمام الرئيس السابق فمه بكلمة نقد لعملية التوريث. اعتبر الأستاذ طارق الشناوى أداء المثقفين بأنه «شجاعة زائفة»، لكنى خرجت من قراءة تعليقه بخلاصة إضافية وثيقة الصلة بنصف الكوب الملآن للثورة الذى نحن بصدده، لست فى وارد التحفظ على نفاق بعض المثقفين وبطولاتهم الزائفة التى يدعونها الآن، لكننى قرأت فى المقارنة بين اللقاءين تجسيدا للفرق بين الحاكم الإله والمواطن الحاكم. وكيف أن المثقفين تعبدوا للأول وانحنوا أمامه وعادوا إلى بيوتهم صامتين وحذرين. أما الثانى فقد هاجموه وانتقدوه وعادوا إلى بيوتهم فخورين ومطمئنين. ثم صاروا يتباهون فى العلن بمواجهة الرئيس والتحفظ على أدائه. ما الذى يعنيه ذلك؟.. هو يعنى أن الثورة أسقطت القداسة عن السلطان فضلا عن السلطة، وتلك نقلة تاريخية بكل المعايير. لقد صار السلطان واحدا من الناس وليس فوق الناس. وأفرق هنا بين القداسة الناشئة عن الخوف، وبين الهيبة القائمة على الاحترام. وأزعم أن رفع القداسة عن السلطان استصحب على الفور سقوط حاجز الخوف، واستعادة المجتمع لجرأته وثقته فى نفسه. لا يقل عن ذلك أهمية أن يؤدى إسقاط القداسة والتعامل مع السلطان باعتباره واحدا من الناس، إلى استبعاد فكرة تأبيد السلطة أو توريثها. وفتح الباب واسعا لأى واحد من الناس لكى يتطلع لرئاسة الدولة. وهو ما شهدناه فى مصر حين وجدنا أحد الشبان الطموحين يؤكد بين الحين والآخر أنه رئيس مصر القادم، لكن ذلك ليس كل شىء، لانه لا يزال فى الجعبة ما يستحق الذكر والتنويه. (3) لم أصدق أُذُنَىَّ حين سمعت حفيدا لى عمره تسع سنوات يقارن أثناء الانتخابات الرئاسية بين المرشحين الدكتور مرسى والفريق شفيق. وفهمت أن الموضوع كان محل مناقشة بين زملائه فى المدرسة الابتدائية، وكان ذلك من الإشارات الدالة على عودة الروح إلى الشعب المصرى الذى عاد أخيرا إلى السياسة بعدما أسقط من الحسبان وأقصى منها، وهذه العودة أسقطت بطاقة الـ99٪ من الأصوات التى ظل السلاطين يشهرونها فى وجوهنا كل حين، كما أسقطت احتكار العسكر للسلطة، وطوت صفحة اللون الواحد والحزب الواحد، وأغلقت الأبواب أمام «تقاليد» تزييف الانتخابات لصالح حزب السلطان وحوارييه. وتلك لعمرى نقلات أخرى مهمة فى تاريخنا السياسى. بعد الثورة ما عاد الحكم قدرا مكتوبا ووقفا على أناس دون غيرهم، وإنما صار اختيار الناس وقرارهم. ولأنه أصبح كذلك، فإن الحكام ما عادوا فوق المساءلة والحساب، على الصعيدين السياسى الذى بات مفروغا منه، والجنائى الذى أصبح سيفا مُصْلَتًا على رقاب الجميع دون استثناء. والبلاغات التى أصبحت تنهال على مكتب النائب العام كاشفة عن المخالفات التى ارتكبها المسئولون فى ظل النظام السابق، تعد إنذارا لكل مسئول آخر فى النظام الحالى. ذلك أن الناس لم يتخلصوا من عقدة الخوف فقط، وإنما صاروا مفتوحى الأعين وشديدى الحساسية إزاء ممارسات السلطة بجميع مؤسساتها ورموزها. إطلاق سراح المجتمع واستعادته لحيويته رتَّبا مجموعة أخرى من النتائج المهمة، فى مقدمتها ما يلى: ● التأكيد على نجاعة التغيير السلمى وجدواه، الأمر الذى أغلق الأبواب أمام دعوات استخدام العنف فى إحداث ذلك التغيير، وهو ما اعترف به المتحدثون باسم الحركات الجهادية والمجموعات القتالية التى لجأت إلى العنف فى ظل النظام السابق لأسباب عدة فى مقدمتها انسداد قنوات التغيير السلمى. ● استعادة قيمة تظاهر الجماهير وخروجها إلى الشوارع والميادين، للتعبير عن احتجاجها بطريق سلمى، ورغم أن هذه القيمة يساء استخدامها فى بعض الأحيان لكن ذلك لا ينفى وجودها، علما بأن إمكانية ترشيد ممارسة تلك الاحتجاجات وترشيد تعامل السلطة معها تظل مفتوحة فى المستقبل. ● استيعاب التيارات الإسلامية فى ساحة العمل السياسى المشروع، الأمر الذى يساعدها على إنضاج مشروعها وتطوير خطابها من ناحية، كما أنه يفتح الأبواب لإمكانية الإفادة من طاقاتها لتحقيق الصالح العام، الأمر الذى يطوى صفحة التنظيمات السرية بعد طى صفحة العنف. ● حين أثبت المجتمع حضوره وأصبح صاحب الكلمة فى تقرير مصير السلطة فإن ذلك كان إيذانا بإنهاء حكم الأقلية واستعادة الأغلبية لحقها الذى سلب منها خلال العقود التى خلت. ولم يعد سرا أن احتكار الأقلية لصدارة السلطة والمجتمع خلال تلك الفترة لم يمثل انقلابا على الديمقراطية فحسب، وإنما أسهم أيضا فى العبث بهوية المجتمع الحقيقية أدى إلى مسخ تلك الهوية وتغريبها، ومن ثم تزويرها فى بعض الأحيان. وهى الصورة التى جرى تصحيحها بعد الثورة، حين أجريت الانتخابات بحرية ونزاهة وجاءت النتائج محددة لحجم وأوزان مختلف القوى المجتمعية والسياسية الموجودة على الساحة. (4) ذلك كله يحسب للثورة وليس للإخوان. وكنت قد أشرت فى الأسطر الأولى إلى أن الثورة أصل والإخوان فرع، والثورة ملك لكل الشعب فى حين أن الإخوان مجرد جزء وفصيل من الشعب. لذلك فإننى تمنيت أن يظل ذلك التميز واضحا ومحسوما لدى الجميع. إلا أن البعض تسرعوا وخلطوا بين الاثنين، حين حملوا الثورة بمشاعرهم وحساسياتهم إزاء الإخوان فحاكموها وأدانوها، حتى إضاءاتها وإشراقاتها تجاهلوها، فظلموا الثورة وبخسوها حقها. حتى قرأنا نعيها فى بعض كتابات المحبطين فضلا عن الناقمين والشامتين. لا أدافع عن أخطاء وقعت، وإنما أدعو إلى الاعتراف بها والاعتذار عن بعضها، ولا أجد مبررا لليأس والقنوط مادمنا ملتزمين بقيم الحرية والديمقراطية، وقابضين على حقنا فى المشاركة والمساءلة. وأذكر بأن زمن احتكار السلطة ولَّى وأن الثورة أدخلتنا عصرا جديدا آيته احتكار الشعب للشوارع والميادين وللفضاء السياسى كله. صحيح أن هذا الكلام انصب على مصر بالدرجة الأولى، لكننى أستطيع أن أقول بثقة أنه ينسحب على دول الربيع العربى أيضا، ولا يفوتنى أن أذكر بأن الربيع ليس مقصورا على خمس أو ست دول فقط، لكن رياحه العطرة اجتاحت العالم العربى بأسره، وثبتت رؤيته فى تلك الدول الخمس والست، لكننا نشم رائحته ونقرأ رسائله القصيرة والمحجوبة فى بقية الدول.