قيادة فتح والسلطة في رام الله، اليسار الفلسطيني، القوميون واليساريون المنحازون للنظام السوري، المرجفون اللاعنون كلَّ بارقة أمل، ثم الناطقون باسم كيان الاحتلال.. كلّ هؤلاء وغيرهم اجتمعوا على رفض وإنكار زيارة أمير قطر لغزة، ولكلّ أهدافه وخلفيته في رفض الزيارة.. فما بين الهلع من إمكانية انفراج الحصار في غزة مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على مشروع حماس بشكل عام، وما بين التباكي على وهم يدعى (وحدانية التمثيل الفلسطيني)، وما بين اجترار مصطلح مكرور فاقد المعنى اسمه (تعزيز الانقسام). وما بين بُغض قطر اعتقاداً بأن لها دوراً في دعم الثورة السورية، وصولاً إلى الخشية من أن تصبّ الأموال في صالح صمود غزة وإنهاء معاناتها، وهي خشية تقابلها أخرى معاكسة ومصطنعة حول ثمن سياسي موهوم يعتقد أن قطر ستجبيه من حماس في غزة ويتمثل في إيقاف المقاومة.. في خضم كل هذه التوليفة من الاعتبارات تكالب الهجّاؤون على حماس حتى ألحقوها بالإمارة القطرية وجعلوها ورقة في جيب سياستها!. خَطَر لي وأنا أتابع ردود الأفعال تلك أن أعود إلى أرشيف حزب الله ولبنان عام 2007 يوم أعلنت قطر نيتها إعمار ما دمرته حرب تموز، فوجدت سجلاً حافلاً بتمجيد قطر والمبالغة في الإطراء على دورها وصل حدّ إلحاقها بمحور (المقاومة) آنذاك، والتغني بشجاعتها وكرمها ومروءتها دون كل العرب. وهو احتفاء قدّمه الكلّ اللبناني حينها بين يدي زيارة أمير قطر للبنان، دون أن نسمع انتقاصاً من قيمة الخطوة القطرية كما حدث مع غزة اليوم! إذ يبدو أن معايير محاكمة حماس مختلفة دائماً رغم أن من ينصّب نفسه قاضياً ومقيّماً لها تعوزه الأهلية لذلك، إما لأنه صاحب مشروع مأزوم ومهزوم على الصعيد الوطني، أو لأنه مجرد رقم ذي قيمة مجهرية في معادلة المقاومة والسياسة على حد سواء!. وفي المقابل؛ وحين كانت قطر مصرّة على المضي قدماً في مشروعها لإعمار غزة، كان إسماعيل هنية رئيس الوزراء في غزة يقول بوضوح أمام الأمير الزائر إننا لا نبيع مقاومتنا ولا نسمح بانتزاع المواقف منا، فيما كان الأمير يتحدّث من على منبر الجامعة الإسلامية حول صمود غزة خلال الحرب وكيف أنه كان الممهد لانطلاق شرارة الربيع العربي، ثم كيف أن الزيارة ومشروع الإعمار ما كانا ليتمّا دون تسهيل ودعم القيادة المصرية الجديدة، بعد أن ظل النظام السابق يعطل الخطوة لسنوات!. سنجد من يقول إن الكلام لا ضريبة عليه ولا يعتدّ به، وهذا صحيح، لكن غزة لم تكن تتكلم وحسب وتنظّر للثوابت وتهتف للقدس والأسرى وحقّ العودة، بل كانت حدودها ملتهبة بالتزامن مع الزيارة، وكانت كتائب القسام تتصدّر فعل المواجهة، وتقدّم الشهداء دونما وجل، وتحاور عدوّها بلغة القصف والردع، فكان أن بُهت الذين مسخ الفعل نظرياتهم العقيمة، فانشغلوا بالبحث عن حجج أخرى تبقيهم في دائرة الهجوم والمزايدة!. عادت قيادة السلطة في رام الله لتجري تعديلاً مشوهاً لموقفها، فقالت إنها تؤيد الإعمار ولكن من بوابة الشرعية، وإن الشرعية تؤخذ من صناديق الاقتراع لا من الزيارات الرسمية، وإن أحداً لا يملك أن يتطاول على شرعية المنظمة وأحقيتها بتمثيل الفلسطينيين، لكنّ هؤلاء فاتهم أن يتذكّروا في خضم الحمّى التي سكنت أوصالهم أن المنظمة لم يأتِ بها صندوق الاقتراع، وأنهم أنكروا نتائج الصندوق حين أتى بغيرهم، وأن لا حماس ولا قطر سوّقتا لخطوة الإعمار من منظار الشرعية السياسية لحماس، بل من بعد إنساني خالص. منذ عام 2006 حفرت قيادة السلطة في رام الله لحماس كثيراً من الحفر دون أن تنجح في إيقاعها بها، لكن الزمان استدار وبدا أن السحر ينقلب شيئاً فشيئاً على الساحر، ولن يلبث أن يفتك به ويكشف قناعه الزائف. أما غزة فإنها تستحق أن تكافأ على صمودها وصدقها وانحيازها للثوابت والحقوق فعلاً لا كلامًا، وبركة دماء الشهداء والمقاومين فيها ستظلّ حاضرة رغم أنف المرجفين، وستنكسر شوكة الحصار ليظهر المستفيدون الحقيقيون من إدامته وتكريسه والتحريض على بقائه!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.