لا يمكن فصل تصريحات الرئيس محمود عباس حول إنكار حق العودة ومنع اشتعال انتفاضة ثالثة التي أثارت عاصفة من الغضب الفلسطيني في الداخل والشتات بمعزل عن الظروف التي يعيشها الرئيس وهو يرى مشروعه ينهار وكل الطرق تبدو مسدودة أمام "دولة فلسطينية مستقلّة"، كما إن خيار الدولة غير كاملة العضوية في الأمم المتحدة قد يتحول إلى حبل يلتف حول عنقه بالضغوط والتهديدات الأمريكية و(الإسرائيلية). ومقابل كل ذلك يتفكك الحصار المفروض على الخصم المتحفز في غزة, وتتهاوى العزلة السياسية التي شارك "أبو مازن" في إحكامها على حماس فيما يتراجع خيار المصالحة, وهذا ما يفسر الخطوات المترددة والسقطات المتكررة للرئيس، ما ينبئ أيضا بأن تكون الخطوات القادمة تعتمد على الهرب إلى الأمام والمغامرة بمستقبل القضية الفلسطينية. ويمكن تلخيص مظاهر حالة الإحباط وتراكم الخيبات في أن جلّ ما يريده اليوم عباس أن يرى صفد بلدته التي رحل عنها وأن تطأ قدمه ترابها زائرا لا عائدا، فأعطى نفسه بذلك الحق بالتخلّي عن فلسطين نيابة عن كلّ الفلسطينيين بل ذهب إلى أكثر من ذلك ووعد بمنع أي انتفاضة ثالثة ما بقي رئيسا. مسيرة "أبو مازن" (الرسمية) في مشروع التنازلات وصلت إلى محطتها الأخيرة تحت لافتة "تنازل من لا يملك لمن لا يستحق" على غرار وعد بلفور. أما تبريرات الرئيس ومستشاريه ووسائل الإعلام التابعة له في الضفة فحاولت تصوير الأمر على أنه تكتيك يستهدف الناخب (الإسرائيلي), بل شنت في المقابل هجوما على حماس باعتبارها صاحبة مشروع الدولة المؤقتة، ولكن كل ذلك لم يصلح ما أفسده عباس, بل إن محاولات تكحيل "التصريحات الخطيئة" جعلتها عوراء كما جاء في حواره مع قناة الحياة المصرية. وفيما يتعلق بالدلالات الناجمة عن هذه الخطيئة فإنها تشير إلى اقتراب نهاية مسيرة عباس السياسية وإلى أن بداية الموت السياسي لن تكون باغتياله كما فعلت (إسرائيل) مع الراحل ياسر عرفات بل انهيار ذاتي عبر تعبير حي عن إحباط القائد الذي راهن منذ انتخابه رئيسا قبل ثماني سنوات على إنهاء الاحتلال (الإسرائيلي) للأراضي الفلسطينية عن طريق المفاوضات، وهو الرجل الذي كان خلف اتّفاق أوسلو. وربما تعطي الأرقام فكرة عن الوضع السائد، ففي عام 1993 أي العام الذي شهد توقيع اتّفاق أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينية و(إسرائيل) كان عدد المستوطنين في الضفّة 193 ألفا أما عددهم اليوم فقد تضاعف ثلاث مرّات. وعلى الصعيد الأمني، يكفي أن نقتبس تصريحا للرجل الثاني في وزارة الحرب (الإسرائيلية) عاموس جلعاد الذي قال: "إننا نعيش في أفضل الأوضاع الأمنيّة على الإطلاق"، تعليقا على الهدوء الذي يسود الضفّة الغربية منذ سنوات في ظلّ قيادة الرئيس عباس. عباس وعد في تصريحاته للقناة العبرية الثانية بحماية الاحتلال من أي انتفاضة ثالثة، وأكد أنه ما دام في السلطة فلن تكون هناك أبدا انتفاضة مسلحة ثالثة (ضد (إسرائيل). وقال: «لا نريد أن نستخدم الإرهاب.. لا نريد أن نستخدم القوة.. لا نريد أن نستخدم الأسلحة.. نريد أن نستخدم الدبلوماسية.. نريد أن نستخدم السياسة.. نريد أن نستخدم المفاوضات.. نريد أن نستخدم المقاومة السلمية". ومع وضع إقليمي ودولي غير مساعد يشعر عباس بتراكم الخيبات ولاسيما أنه يعتبر نفسه قد نفذ ما هو مطلوب منه على صعيد ضبط الوضع الأمني في الضفة ومنع الهجمات ضد (إسرائيل). ويعبّر "أبو مازن" عن هذا الواقع خلال مقابلة مع مجلّة "تايم" الأميركية عندما قال في معرض شرح وجهة نظره بشأن المعارضة لاستخدام السلاح وسيلة للحصول على المطالب الوطنية: "لقد كنت دوما أسبح عكس التيّار.. أحاول كل الوقت أن أقول ما أشعر به تماما.. وعندما ترشّحت للرئاسة قلت إنني لا أقبل بالكفاح المسلّح وسأمنعه"، وفعلا كان هذا ما فعله عباس. المحطة الأخيرة أمام "أبو مازن" هي دولة غير كاملة العضوية، وبناء عليه سيكون بين خيارين: - الأول العودة إلى المفاوضات مقابل استمرار سلطته في الحياة. وقد ظهرت بوادر هذا الاتجاه ردا على الموقف الأمريكي الرافض للتوجه للأمم المتحدة، فقد وجّه عباس رسالة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما يؤكّد له فيها أنه مستعدّ للعودة إلى المفاوضات مع (إسرائيل) إذا حصل الفلسطينيون على وضع دولة غير مكتملة العضوية في المنظّمة الدولية، وفي ذلك تلميح واضح إلى استعداد فلسطيني للتخلّي عن شرط تجميد الاستيطان للعودة إلى طاولة المفاوضات. - الخيار الثاني أن ينهي عباس مشروعه السياسي بالمشهد الأخير على المسرح الفلسطيني بأن يظهر في صورة القائد الذي تمكن من تحقيق رؤية دولة غير كاملة العضوية رغم الرفض الأمريكي و(الإسرائيلي) الذي لم يتغيّر، ولا يبدو أنه قابل للتغيّر سواء أبقي أوباما لولاية رئاسية جديدة في البيت الأبيض أم فاز المرشّح الجمهوري ميت رومني الذي أفصح في وقت سابق عن أفكاره حيال القضية الفلسطينية. وسيعود عباس للتهديد باتّخاذ إجراءات جذريّة بعدما أسقطت في يده كل الخيارات الأخرى، ومن بين هذه الخيارات الإقدام على حلّ السلطة الفلسطينية، وما سيجرّه ذلك من رد فعل (إسرائيلي) يتمثّل في إعادة حكم الضفة الغربية مباشرة مع ما سيتبع ذلك من تفجّر للأوضاع. وتعبيرا عن خيبة الأمل هذه، حذّر عباس في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" (الإسرائيلية) قبل أيام من أن الوضع الحالي يهدّد بخطر اندلاع «ربيع إسلامي فلسطيني» يشكّل خطرا على الفلسطينيين و(إسرائيل) على حد سواء، متهما نتنياهو بتدمير "حلّ الدولتين". المهم أن تصريحات "أبو مازن" ومواقفه الأخيرة لن تعود عليه بأي نفع كما زعم مستشاره نبيل أبو ردينة الذي أشار إلى أن مقابلة تلفزيونية لا تعني مفاوضات وأن هدف المقابلة مع التلفزيون (الإسرائيلي) كان التأثير في الرأي العام (الإسرائيلي). (إسرائيليا)، تؤكد تصريحات رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو والتفوه الصريح لوزير خارجيته وحليفه في الانتخابات افيغدور ليبرمان أن صفقة المقايضة السياسية تتمثل في الأمن مقابل السلطة, بمعنى أن يمثل أبو مازن وسلطته دورا أمني في الضفة الغربية كما أعلن للقناة الثانية بمنع نشوب انتفاضة ثالثة مقابل استمرار (إسرائيل) بدعم سلطته ماليا والتعاون أمنيا لمنع حماس من السيطرة على الضفة الغربية, وهذا أقصى ما يمكن أن تقدمه (إسرائيل) لعباس مقابل خدماته. ومما لا شك فيه أن اتّـجاه الأحداث لا يشي بقرب العودة إلى المفاوضات بين السلطة الفلسطينية و(إسرائيل)، أو باحتمال تحقيق اختراق على هذا الصعيد حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيكون الفائز فيها مشغولا بنسبة كبيرة في ترتيب إدارته الجديدة، لذلك سيظلّ الملف الفلسطيني مؤجّلا مع ما سيترتّب على ذلك من اتّساع خيبة سلطة رام الله، ولكن هذا يجعل الضفة الغربية برميل بارود قد ينفجر في وجه السلطة، وعندئذ لن يفي "أبو مازن" بوعده لـ"الإسرائيليين" بمنع انتفاضة ثالثة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.