الناظر في ردود الفعل التي تلت تصريحات محمود عباس التفريطية الأخيرة (وليست غير المسبوقة) يلمس دون شك إصراراً محموماً على تبريرها وتسويغها كضرورة (وطنية) تراها الأبواق الناطقة باسم قيادة السلطة إحدى لوازم ما تسميه المعركة الدبلوماسية التي تخوضها على جبهة الأمم المتحدة، وهي حرب غير مألوفة في تاريخ البشرية، ذلك أنها تقتضي فيما تقتضيه أن يسرف الطرف صاحب المظلومية في بذل ماء وجهه دونما مقابل، والتمادي في التنازل عن حقوقه، إرضاءً للذوق العالمي في تعاطيه مع حقوق المستضعفين، واستدراراً لرحمة عدوّه ومغتصب أرضه!. لم تفلح قيادة السلطة في سوق تبريراتها السخيفة وهي تعلّق على ردّات الفعل على تصريحات عباس، إذ يبدو أنها لم تتوقع أن تثير التصريحات مثل تلك العاصفة الإعلامية من الانتقادات، خصوصاً أو منابر إعلامية مشهورة وعالمية سلّطت الضوء عليها وعلى تداعياتها. ولكن بدل أن تحاول قيادة السلطة وحركة فتح ترميم ما أفسده عباس، فقد أخذتها العزّة بالإثم، وأدارت دفة الحرب باتجاه حماس، محاولة تصوير أن الحركة هي الوحيدة التي غضبت للتصريحات، فيما تجاهلت حالة الإنكار الجامعة التي كانت حماس جزءاً منها وليست واجهتها، لأن الغضب هذه المرة استعر في قلوب معظم الفلسطينيين باستثناء المنتفعين من السلطة والمحسوبين عليها. لكنّ المستوى السياسي فيها لم يجد أمامه سوى مفردات الانقلاب والتآمر على الشرعية ليرميها في وجه كلّ من قال إن عباس لا يمثلني وإنني لا أفرط بحقي في فلسطين مهما كانت الذريعة!. وحقيقة فإن مثل هذا الاستحضار الدائم لقضية (الشرعية) بات يبعث على الاشمئزاز، مثلما يذكّر بحجم جناية التضليل والكذب والإقصاء التي مارستها قيادة السلطة على مرّ تاريخها، فهي لم تعد تحتكر القرار الفلسطيني وحسب، بل تغتصبه وتجرد كلّ مخالفيها منه، وكأنه مفروض على الفلسطينيين جميعاً أن يتبنوا الخط السياسي لحركة فتح في أسوأ أشكاله وأحطّها، والتي يعبّر عنها محمود عباس في جميع مواقفه وتصريحاته، وهو من كانت حركة فتح تطلق عليه بالأمس القريب (قرضاي فلسطين)! إن هذه المكابرة والعنجهية التي تبديها حركة فتح في ردود أفعالها على حالة الغضب الفلسطيني إنما تلفت النظر بشكل أعمق من ذي قبل إلى مدى استحالة التصالح معها على قاعدة وطنية لا تفريط فيها ولا تنازل، ورغم أننا ما زلنا نذكر كيف كانت تضغط على حماس للقبول بشروط الرباعية عقب الانتخابات التشريعية عام 2006، إلا أننا الآن يجب أن نكون أكثر قناعة بأن الأمر أكبر من مجرد برنامج سياسي ما زالت فتح تناطح المنطق وطبيعة الأشياء لأجله، حتى مع ثبوت فشله وسخافته وفشله في انتزاع حقّ واحد مسلوب يخصّ الشعب الفلسطيني! إنه الدور الوظيفي البائس لأية سلطة ترزح تحت الاحتلال، وترتبط معه باتفاقات والتزامات سياسية وأمنية واقتصادية تبقيها مكبّلة وعاجزة وفي حالة تراجع مستمر. لكن الحال هنا أن السلطة وقيادة حركة فتح تنكر أنها تمارس مثل هذا الدور وتحاول إرغام الجمهور على الاقتناع بأنها حامية مشروع وطني كبير، وهي لا ترى أية قيمة لممارساتها الخطيرة على الأرض ما دامت قادرة على تبني خطاب عنجهي كاذب يتيح لها ترحيل مآزقها ورمي خصومها بأمراضها المزمنة، مثلما أتاح لها دائماً أن تسطو على القرار الفلسطيني وأن تجيّره لخدمة وجودها وبقائها وتثبيت المنتفعين من حولها!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.