كما أن من واجب الإعلامي والكاتب والمثقف أن يكون منطلقاً من خلفية حرّة تعاف النفاق والتضليل في عمله وواجبه تجاه الوعي، فإن عليه كذلك أن ينبذ الازدواجية وثقافة التبرير عند تقييم المواقف الصادرة عن الجهات والهيئات المختلفة في المجتمع. حادثة فضّ التظاهرة النسائية في غزة أول من أمس أثارت استياءً واستهجاناً كبيرين دون شك، وبغضّ النظر عن دوافع الجهات المختلفة التي أصدرت بيانات إدانة وعلّقت على الحادثة، فإن الانحياز للحريات والحق في التعبير عن الرأي هو ما كان منطلق الشرفاء وهم يدينون الموقف ويطالبون بمحاسبة المسؤولين عنه. فالحق في التظاهر والاحتجاج السلمي ينبغي أن يظلّ مكفولاً لجميع الناس، وأن تصونه أي حكومة تحترم نفسها ورسالتها ومسؤولياتها، وليس لها أن تتبرم من أي حراك في الميدان ما دام سلمياً ويعبّر عن نفسه دون المساس بالممتلكات العامة أو انتهاج التخريب. أعلم جيداً أن هناك من سيستغل الحادث لتغذية نزعاته النفاقية أو الحقدية أو للتعمية على صنيع سلطة المقاطعة في رام الله، لكنّ هذا لا يجوز أن يصرفنا عن انتقاد صريح لأي حادثة اعتداء على الحريّات، دون أن نكون مضطرين لاستحضار المقارنات أو التخوّف من استغلال المغرضين لكلمات الحق والانتقاد البنّاء، تماماً كما أن التوقف عند نوايا منظمي بعض التظاهرات لا يغدو ذا أهمية كبيرة إذا ما جوبهت هذه التحركات بالقمع، فليست هناك حكومة في العالم قادرة على نيل رضا جميع شرائح المجتمع أو إقناعه برؤيتها السياسية وأولوياتها حتى لو كانت على صواب، وحتى لو كانت تقف رأس حربة في مواجهة أعدائها الخارجيين. ومثلما أنه من واجب كل وطني وحرّ في فلسطين أن يدافع عن حكومة غزة فيما يخصّ دورها المقاوم وصمودها في وجه التهديد والعدوان الصهيوني، وانحيازها للثوابت والحقوق الفلسطينية، فإن هذا لا يمنع من انتقاد الممارسات والسلوكيات الخاطئة لعناصر أمنها فيما يتعلّق بالحريات، وأحسب أن غالبية من يشغلون مواقع أمنية في غزة يستمعون بإصغاء واهتمام لنصائح المخلصين والغيورين من حولهم ممن يرون المشهد من زاوية أوسع من تلك التي ينظر منها صاحب الموقع الأمني!. وفي كلّ الأحوال فإن المنحازين بإخلاص للحقوق لن يحمّلوا مثل هذه الحادثة أكثر مما تحتمل، وانتقادهم إياها يأتي في إطار الحرص على حقوق المواطنين وعلى إرساء قواعد أمنية سليمة في التعاطي الداخلي معها، دون هوس غير مبرر، لأنه ما من شيء يبرر المساس بكرامة الإنسان أو انتهاكها. لكننا في الوقت ذلك لن نسارع كالعادة لمساواة مجحفة بين نهجي وحالي سلطتي رام الله وغزة، ذلك أن مشكلتنا مع حكومة الضفة ليست متعلقة بالحريات فقط، بل بخلاف وطني كبير؛ خلاف على المفاهيم وعلى المنهج، ومع تلك الثقافة الدخيلة التي تهوّن من شأن الخيانة وتزيّن مفرداتها!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.