كنت أهمُّ بالكتابة حول الاعتداء السافر الذي نفذه عناصر الأمن الوقائي في الخليل بحق اعتصامنا، أول أمس، ضد الاعتقال السياسي، غير أن خبر اغتيال القائد في كتائب القسام في غزة أحمد الجعبري احتل المشهد فجأة، وتراجع أمامه كلّ شيء حتى تلاشى، إلا تلك المفارقة التي ستظلّ شاخصة أمام ناظرينا؛ بين من يفني عمره وهو شاخص النظر إلى حيث وجع قضيته، وبين من يسكب كرامته في خيانة مبادئه! استشهد أحمد الجعبري.. دفعت حماس مجدداً ضريبة غالية ومؤلمة لأجل وفائها، ولأجل ذودها عن سارية الجهاد التي صنعتها من ضلوع صدرها، وظلت تتعهدها بالرعاية رغم أوجاع المسير.. ستضحك (إسرائيل) بملء شدقيها ردحاً قصيرا لأنها ظنت أنها شربت من دم الذي أنهكها وصفع كبرياءها حين أمسك بجنديها الأسير قبل عام ليخرجه ويستقبل مكانه مئات المجاهدين القادمين من سجونهم، وستنتعش أفئدة من ينتشي لأية مصيبة تحيق بحماس وتنقص قادتها واحدا، لكن الواقفين في خندق الجعبري لن ينتحبوا ولن يشقّوا الجيوب بكاءً وعويلا، بل سيرددون بثقة: إنا نقدم قبل الجند قادتنا .. نحو المنون سباقاً نحو مولانا! فالموت اغتيالاً ليس حدثاً جديداً ولا مستحدثاً في سيرة أعلام حماس، إنه انعطافات مراحل تزداد التي تليها تشبثاً بخيارها الأبدي المسمى مقاومة، وهو فرصة للتأكد من سلامة الخطو وأصالة المسير، ومؤشر على أن ريادة الفعل لا تزال نيشاناً على صدر الحركة التي ما بدلت ولا غيرت لون جلدها يوم أن اعتلت كرسي السلطة في بقعة لا تزال وحدها المشتعلة والطافحة دماً ورصاصًا، فيما اختار ما سواها وما حولها السكون أو مداعبة الوهم ومغازلة سراب يحسبه الظمآن نضالًا! ليس مهماً كثيراً معرفة فيما إذا كان اغتيال "أحمد الجعبري" مؤشراً لبداية عدوان جديد على غزة أم أنه مجرد مناورة انتخابية اعتاد قادة الكيان على تقديمها في كل مواسمهم الانتخابية التي تتمول من دم المجاهدين وقادة المقاومة.. بل الأهم من كل هذا ما تثبته يوميات هذا الوطن المحتل وما تنفيه من قاموسها، وهو أنه ما من سبيل لتصديق أكذوبة الاستقرار في ظل الاحتلال، ولا الانسلاخ من الخيارات ذات الأولوية نحو تفاصيل هزيلة يمعن فريق التسوية الجبان على تصديرها لتشغل الناس وتفتك بعزائمهم وتضيع مسار بوصلة نضالهم! وما عاد هناك سبيل لأن يتسرب الخوف إلى قلوب المخلصين والأحرار، لا على غزة ولا على حماس حامية قلعتها، فقد جربت غزة أن تذهب حتى آخر الطريق في مواجهة الكيان الغاصب، وتحمّل أشرس شكل للعدوان عليها، كما جرّبت حماس معنى أن يغتال لها قادة كبار، وأن تفجع برحيلهم واحداً إثر آخر، مقبلين غير مدبرين، وهي منجبة الصفوة منهم والباذلة خيرة بنيها! رحل أحمد الجعبري لكن مسيرة الجهاد ما أعلنت الاستكانة، صمت كل المتسربلين بالخزي، وبدت سوءات ما يأفكون، وسطع نجم واحد ممن حسبهم أن الله يعرفهم، فأطفأ نار الحاقدين وأخمد تسكّعهم على هامش الدم! أما نحن يا أبا محمد، فما كنا نحتاج أن نفجع برحيلك حتى نصدّق أن حماس قابضة على جمر المقاومة ما بقيت وعاشت، فلون ثورتك طالعناه في قسمات المرابطين، وفي ابتسامات العائدين من سجونهم. أما صمودك الجميل فكنا نزداد به يقينا كلما رأينا وجوه الخائنين وعرفنا حجم خيبتها ووضاعتهم.. لأنك بقيت المختلف، والمتجرد إلا من بيعتك لله!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.