مع اغتيال أحمد الجعبري القائد الكبير في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس تكون (إسرائيل) قد اغتالت مرحلة، واختطت الطريق لمرحلة جديدة ذات أبعاد خطيرة في مواجهة المقاومة الفلسطينية. لم نفرغ بعد من تدوين دروس السياسة والميدان التي حملتها جولة التصعيد الأخيرة التي استمرت بضعة أيام الأسبوع الماضي حتى باغتنا الانفجار الكبير بأسرع مما كنا نعتقد ويعتقد الكثيرون. [title]اتساع نطاق المواجهة [/title] لم يساور أحد من السياسيين والمراقبين أدنى شك طيلة الأشهر الماضية في أن لحظة المواجهة والصدام الكبرى بين (إسرائيل) من جهة، وحماس وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من جهة أخرى آتية لا ريب فيها، وأن المسألة هي مسألة وقت فحسب، وأن نقطة الصفر تقترب سريعا للغاية من ملامسة الواقع. منذ انتهاء الحرب على غزة مطلع عام 2009 التي عجزت (إسرائيل) فيها عن تحقيق معظم أهدافها كان واضحا أن العجز الإسرائيلي عن القضاء على قوى المقاومة الفلسطينية واستمرار تعاظم قدراتها العسكرية ومواصلة إطلاقها للصواريخ على جنوب الدولة العبرية، من شأنه أن يعيد إنتاج المعركة من جديد في سياق ظروف ومناخات مواتية مهما طال الزمن. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي أدركت (إسرائيل) أن هامش فعلها العسكري الذي تمتع بالأريحية الكاملة في الماضي قد تقلص كثيرا، وأن ضرب المقاومة الفلسطينية وبناها التحتية من جهة، وإجبار حركة حماس على لعب دور "الشرطي" في منع قوى المقاومة من إطلاق الصواريخ من جهة أخرى، بات حاجة إستراتيجية أكثر إلحاحا في خضم المتغيرات الإقليمية التي لا تصب –إجمالا- في الصالح الإسرائيلي. وهكذا تضافرت مجموعة من العوامل والاعتبارات في نقل موجات التصعيد المحسوب المتفرقة التي طغت على مشهد العلاقة بين (إٍسرائيل) وقوى المقاومة خلال مرحلة ما بعد الحرب على غزة إلى دائرة التصعيد الواسع التي تعتمل حاليا، وأهمها اقتراب السباق الانتخابي في (إسرائيل) من ميقاته المعلوم نهاية يناير/كانون الثاني القادم وتعويل نتنياهو وباراك على استثمار نتائج الحملة العسكرية الراهنة وما يتوقعانه من عودة الهدوء إلى جنوب (إٍسرائيل) كإنجاز كبير يسهم في رفع أسهمهما وحظوظهما الانتخابية، فضلا عن حسابات سياسية تتعلق بتأجيل الحرب على إيران ودفع معضلة غزة إلى الواجهة من جديد، وحسابات عسكرية أخرى تتعلق بضغط المستوى العسكري الإسرائيلي المتكرر لتنفيذ عملية واسعة ضد المقاومة في غزة بهدف إضعاف قدراتها العسكرية، واستعادة قدرة الردع المتآكلة، وإعادة الهدوء إلى المناطق الجنوبية في الدولة العبرية. ومن هنا جاءت جريمة اغتيال الجعبري لتخلط كل الأوراق، وتعقّد كل الحسابات، وتنهي تماما من القاموس الميداني مصطلح "جولة" الذي اعتدنا على وسم تضاريس الصراع والمواجهة مع الاحتلال به، وتؤذن ببدء مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة مع الاحتلال. ورغم اتساع نطاق المواجهة والصدام، ومحاولة حكومة الاحتلال ومؤسسته العسكرية الإيحاء بفتح كل الخيارات في مواجهة غزة ومقاومتها، إلا أن تضاريس المرحلة والواقع يجعل من تطور المواجهة الحالية الشبيهة بالحرب المصغرة والمحدودة، والقائمة أساسا على تنفيذ الاغتيالات والضربات والقصف الجوي، إلى حرب مفتوحة بمعنى الكلمة على شاكلة حرب عام 2008 و2009، أمرا صعبا ومتعذرا لاعتبارات سياسية وعسكرية وإستراتيجية. وبقراءة موضوعية لسيرورة وتفاصيل المواجهة التي بدأتها (إسرائيل) باغتيال الجعبري يمكن الجزم بأن شكل وآلية تنفيذ الحملة استهدف إرباك حماس وقوى المقاومة وإفقادها صوابها، ودفعها إلى كشف كل أوراق القوة لديها، وحشرها في أتون مواجهة مفصلة تماما على المقاس الإسرائيلي بغية فرض اشتراطاتها الميدانية من منطلق اليد الإسرائيلية العليا. وبمنطق الواثق الذي تحسّب طويلا للحظة الصدام الراهنة تدرك حماس وقوى المقاومة ألا مفر من المواجهة ودفع الثمن، وخصوصا أن الاحتلال قد فرض توقيت وحجم المعركة هذه المرة، لكن الفارق أكثر ما يكون تجليا في حجم الاستعداد لتحمل الألم واستيعاب المعاناة ما بين أهالي القطاع الذين تجذرت فيهم قيم ومعاني الصمود وبين الإسرائيليين الذين سكنهم الرعب وفروا مذعورين من مناطق القصف الصاروخي الفلسطيني. [title]سبل المواجهة [/title] في مواجهة هذا التطور الخطير يجب على حكومة حماس وقوى المقاومة في غزة أن تبادر إلى سلسلة من الخطوات الهامة والإجراءات الدقيقة على المستوى الميداني والسياسي والإعلامي والجماهيري. ميدانيا، ينبغي إعلان حالة الطوارئ القصوى على مستوى قطاع غزة بشكل كامل في أبعادها العسكرية والأمنية والصحية والاقتصادية والإدارية، وتفعيل غرفة العمليات العسكرية المشتركة التي تضم كافة القوى والتشكيلات العسكرية الفاعلة والحية بهدف تنسيق وتأطير الجهد المقاوم وضمان تركيزه ميدانيا بما يحقق أعلى قدر ممكن من الأهداف الموضوعة. وغني عن القول إن توقف قوى المقاومة عن ممارسة ردودها المنفردة على عدوان الاحتلال والالتزام بالقرارات الجمعية الموحدة، يشكل ارتقاء جمعيا واعيا لقوى المقاومة إلى مستوى خطورة اللحظة الراهنة، ويجسد خطوة هامة ومتقدمة إلى الأمام للإثخان في الاحتلال ومواجهته بموقف فلسطيني مقاوم موحد من شأنه أن يربك حساباته التي تعتمد بث الفرقة ودق الأسافين بين قوى المقاومة ومكوناتها المختلفة. سياسيا، ينبغي مواصلة الضغط الفلسطيني على الجوار العربي، وعلى رأسه مصر والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، بهدف التدخل القوي والفاعل لوقف إجرام الاحتلال ضد أهالي القطاع، وإلزام المجتمع الدولي بوضع حدّ للتغول الإسرائيلي الهائل على غزة وأهلها الصامدين. وهنا لا يكفي اللوذ بالموقف المصري الرسمي بسحب السفير المصري من تل أبيب وإيفاد رئيس الوزراء هشام قنديل إلى غزة على أهميته، إذ يجب مواصلة حثّ مصر على اتخاذ مواقف أكثر عملية لوقف العدوان من واقع أن مصر مشفوعة بدعم تركي وعربي عام هي الدولة الأكثر أهلية للتصدي للعنجهية الإسرائيلية وإجبارها عبر وسائل وخطوات جادة على وقف عدوانها الواسع ضد أهالي القطاع. وعليه، فإن الدولة المصرية مطالبة اليوم بوضع العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية، واتفاقية كامب ديفيد في قلب المعركة الدائرة، وإنذار إٍسرائيل والإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي بإلغاء الاتفاقية وقطع العلاقات حال استمرار العدوان، وما يستتبعه ذلك من التهديد بإعلان حالة الطوارئ في الجيش المصري ونشره على طول الحدود مع الدولة العبرية. ويحيط بذلك كله موقف وطني عال ومسؤول يجب أن يضطلع به الرئيس "أبو مازن"، فهو يقف اليوم أمام محك الاختبار العملي في مواجهة الإجرام الإسرائيلي، وبه تناط مسؤوليات الاصطفاف إلى جوار أبناء شعبه الذين يتعرضون للنار المحرقة في قطاع غزة، وتفعيل سبل التواصل الإقليمي والدولي في مواجهة العدوان الإسرائيلي على أهالي القطاع، والمبادرة بإعلان وقف التعاون الأمني مع الدوائر الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. إعلاميا، ينبغي تشكيل غرفة عمليات إعلامية فلسطينية مشتركة تضم كافة الأطياف السياسية والمؤسساتية بهدف توحيد الجهد الإعلامي الرامي إلى فضح الاحتلال وتعرية جرائمه على المستوى الإقليمي والدولي. جماهيريا، ينبغي أن تُسيّر الفعاليات الجماهيرية الكبرى في الضفة الغربية وقطاع غزة أمام مقار الأمم المتحدة ومكاتب التمثيل الخاصة ببعض الدول الهامة في غزة، بهدف إيصال رسائل فلسطينية شعبية موحدة تدعو المجتمع الدولي ودوله الفاعلة للتدخل العاجل لوقف العدوان، وتضعهم أمام مسؤولياتهم القانونية والإنسانية والأخلاقية في حماية المدنيين الأبرياء من البطش والعربدة والإرهاب الإسرائيلي. [title]مآلات المواجهة [/title] يصعب رسم سيناريو دقيق مكتمل المعالم والأركان لفحص آفاق المعركة ومآلات المواجهة الدائرة بين المقاومة والاحتلال في ظل الشحن العاطفي الهائل الذي ولده استهداف قيادي كبير بوزن القائد الجعبري، وفي ظل قيام كتائب القسام بوضع مدينة تل أبيب التي تشكل العاصمة الفعلية لإسرائيل في مرمى صواريخها عقب استهدافها بصواريخ فجر "5" المتطورة، في تطور بالغ الأهمية يكسر كل الخطوط الحمراء، ويغير تماما قواعد اللعبة الدارجة بين قوى المقاومة والاحتلال. وإذا ما أدركنا أن أحد أهم الأهداف التي يرمي إليها الاحتلال من وراء حملته العدوانية يستهدف إجبار حماس التي تدير شؤون القطاع على ضبط الجبهة الميدانية ومنع إطلاق الصواريخ، فإن طول أو قصر أمد المعركة سوف يتحدد أساسا وفقا لمدى استعداد حماس لتجرع الأذى والضربات العسكرية المختلفة التي قد تمتد لاحقا حسب بعض السيناريوهات لتشتمل على استهداف القيادات السياسية للحركة إذا ما فشلت وساطات التهدئة التي تستحثها إسرائيل عبر وسطاء أوروبيين حاليا. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أهم المحددات التي تسهم في صوغ مقاربة لمآلات المواجهة الحالية، وبالتالي رسم السيناريو الأقرب لمشهد النهاية المتوقعة، وهي كالتالي: أولا- مدى صمود حماس والمقاومة: لا يخفى أن صمود واستمرار حماس وحكومتها وقوى المقاومة المختلفة، وعدم رضوخهم للضغط الإسرائيلي، من شأنه أن يجبر إسرائيل على إعادة تقييم موقفها من مسألة استمرار المعركة وإطالة أمدها. والثابت أن حكومة وجيش الاحتلال قد فوجئوا بحجم القدرات الصاروخية لقوى المقاومة، وباتوا في موقع الحرج أمام شعبهم في ظل استمرار تساقط الرشقات الصاروخية الكثيفة على جنوب إسرائيل، ولم يعد أمامهم من مجال سوى تكثيف مدى وحجم عدوانهم عبر رفع وتيرة الاغتيالات بحق كوادر المقاومة العسكريين، ولربما الشروع في اغتيال القيادات السياسية للمقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، أو الشروع في استجداء التهدئة عبر بعض الوساطات. وهكذا فإن مسار المواجهة الدائرة قد يتحدد مع مصير الوساطات التي تتفاعل حاليا لإنجاز تهدئة توقف العدوان على أرضية الرعاية والدعم الإقليمي والدولي. ثانيا- مدى جدية الموقف المصري: وبكل تأكيد فإن المدى الذي يمكن أن يبلغه الموقف المصري في إطار مواجهة العدوان الإسرائيلي سيلعب دورا رئيسيا في تحديد آفاق ومستقبل الحملة الإسرائيلية الحالية. ومن خلال استقراء الموقف المصري الراهن يمكن الوثوق بأن إسرائيل لن تغامر بإخراج حملتها العسكرية عن نطاقها الجوي الراهن بفعل قوة الموقف المصري، وستعمد إلى محاولة استنبات هدنة ميدانية خلال الساعات أو الأيام المقبلة بحيث تحفظ ماء وجه الاحتلال قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة وما يعنيه ذلك من حرج بالغ لموقف الثنائي نتنياهو باراك الذي يقود المعركة على غزة ومقاومتها. ثالثا- طبيعة الموقف الدولي: وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال طبيعة الموقف الدولي إزاء المواجهة الدائرة، فهو يعمل كمحدد مهم في التأثير على السياسة الإسرائيلية سلبا أو إيجابا. وحتى اللحظة فإن المجتمع الدولي يقف موقفا سلبيا إزاء عدوان الاحتلال، وخصوصا الموقف الأميركي الداعم للعدوان، وممالأة مجلس الأمن وعدم توازن المنظمات الدولية الأخرى في التعاطي مع الجرائم الإسرائيلية. رابعا- مدى تماسك الموقف الإسرائيلي الداخلي: من شأن وحدة الموقف الإسرائيلي الداخلي أن يجعل نتنياهو وباراك أكثر جرأة في خوض غمار المعركة حتى النهاية، متسلحيْن بدعم مطلق من المؤسسة العسكرية وشبكة أمان سياسية وحزبية واجتماعية داعمة. وبالعكس من ذلك، فإن انقسام الموقف الإسرائيلي الداخلي، وظهور أصوات ومواقف مهمة رافضة، كفيل بإرباك وإضعاف موقف نتنياهو وباراك وقيادة المؤسسة العسكرية، وحملهم على تقصير أمد المعركة واستجلاب الحلول السياسية لها. إن الحقيقة الأكيدة أن الفلسطينيين لا يملكون الكثير من أوراق القوة في مواجهة سعة القدرات العسكرية للاحتلال وتفوق ترسانته الحربية، لكنهم يملكون –في المقابل- إرادة الصمود والتحدي والثبات على هذه الأرض الطاهرة المباركة، وهو سلاح معنوي وأخلاقي محصّن بقوة الحق الذي تكتنزه قضيتهم العادلة وغير قابل للانكسار بأي حال من الأحوال. صراعنا مع الاحتلال الإسرائيلي ما زال طويلا، ويعتمد أساسا على سياسة النفس الطويل وامتصاص الضربات ومراكمة الإنجازات، وهو صراع دامٍ وقوده الدم والعرق والدموع، ولا يتألم فيه الفلسطينيون لوحدهم بقدر ما يتألم الصهاينة الآخرون. الحملة العدوانية التي بدأها الاحتلال على غزة، صغيرة كانت أم كبيرة، لن تحقق أهدافها، وستمضي حملة "عامود السماء" كما مضت حملة "الرصاص المصبوب" من قبل، وسيبقى شعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة شامخا عزيزا وأكثر تجذرا بأرضه وتمسكا بحقوقه، ولن ينال منه بطش وإرهاب الاحتلال رغم كل الآلام والمحن والجراح والتحديات. وبهذه الحملة العدوانية الجديدة تكون إسرائيل قد أطلقت السهم الأخير في كنانة عدوانها ومخططاتها الإجرامية ضد قطاع غزة وقواه المقاومة، ولم يعد في جعبة تهديداتها ما يمكن أن تلوّح به في وجه قوى المقاومة مستقبلا، وهو ما يعبّد الطريق أمام مرحلة جديدة من الفشل والتراجع الإسرائيلي.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.