حاولت هوليود على طريقتها تحذير الأمريكيين قبل شهرين من الاقتراع لاختيار رئيس أمريكا بإطلاق فيلم بعنوان الحملة The Campaignمن عملية غسيل الدماغ والتضليل الذي يخضعون له الذي ينتهي بانتخاب المرشح صاحب الوجه الأجمل أو الانفاق الأكثر والسيرة الأقبح! والفيلم يعرض في قالب كوميدي كواليس الانتخابات الأمريكية التي تسيطر عليها رؤوس الأموال والشركات الكبرى التي تقدم الدعم المالي للمرشحين حتى يكونوا صوتها ويدها الضاربة في واشنطن، عاصمة صنع القرارات والسياسات، ويبين الفيلم الوجه القذر جدا للحملات الانتخابية التي تنتهك كل المحرمات في سبيل الفوز، وهذا عكس ما يظهر للعالم من النزاهة والشفافية واحترام الخصوم، فوراء ذلك فساد أخلاقي واقتصادي وسياسي، ولكن آلة الإعلام تتقن تغطية الصور الحقيقية وتتقن صناعة صورة القائد المثالي من رأسه حتى أخمص قدميه، وبهذا يتحول أغلب الشعب الأمريكي الى جمهور هوليودي يتفرج ويقتنع بالأداء الدرامي المحبوك للمثل في دور واقعي يؤديه المرشح للرئاسة! وعلى عكس ما يتصور البعض فلا شيء في سلوكات المرشحين يخضع للتلقائية والطبيعية، بل كلها خطوات محسوبة ومدروسة لكسب مزيد من التأييد، وصحيح أن الكاريزما والحضور الشخصي له دور في صناعة الهالة حول الرئيس، ولكن المواهب والقدرات الفردية لا تكفي، ونظرية السوبرمان الذي يستطيع انجاز كل شيء بمفرده ليس لها مكان في الحملات الانتخابية حيث يسود الجهد الجماعي، ويكون لكل مرشح اسطول من المختصين يعملون معه ويوجهون كل بسمة وكل دمعة وحركة وكلمة في عرض مستمر طوال الحملة الانتخابية ينتهي بعرض ختامي بعد الفوز يكلل مسيرة الشهور، وحتى الخاسر لا يغادر العرض وخشبة مسرح السياسة من الأبواب الخلفية، بل له حضور أخير وكلمة ختامية تحافظ على صورة البطل المرفوع الرأس حتى في لحظة الهزيمة التراجيدية! وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي رضع الحرية والديمقراطية وتعود على الحملات الانتخابية منذ الصغر، إلا أن الغالبية العظمى تسمح لنفسها أن تقع فريسة المظهر الخارجي والعلاقات العامة والدعاية وهذه لها اليد الطولى في تحديد فوز مرشح دون سواه، وقليل من الشعب يقوم بدوره في المراقبة والمحاسبة ومناقشة البرامج والانجازات للمرشحين، وحتى المناظرات العامة تعتمد على الاستعراض والأجوبة المسكتة والقدرة على ضبط الأعصاب و التحمل. وللدلالة على ذلك فقد أجرى بعض الإعلاميين مقارنة بين المرشحين أوباما ورومني؛ بناء على الصور التي تداولتها وسائل الاعلام لهما طوال فترة الحملة الانتخابية لنشاطاتهما العامة وحياتهما الخاصة وعنوان العرض «لماذا فاز أوباما؟ وكيف ساهمت محبة الجمهور likeabilityفي حسم الحملة الانتخابية لعام 2012؟». ويوضح العرض المرئي المدعم بالصور أن الانتخابات لا تعنى بالحقائق، ولا تبحث عنها، فالحقائق السياسية لا يمكن الاعتماد عليها؛ إما لتحيزها وعدم موضوعيتها او اعتمادها المطلق على المنطق، وفي السياسة عندما يتقاطع المنطق reasonمع العاطفة emotionتفوز العاطفة بلا شك! وهذا أمر يعرفه المرشحون فيلعبون على أوتار العاطفة ويشاركون في المسيرات والتجمعات ويقبلون الأطفال، وفي النهاية يفوز المرشح الذي يلهم عواطف الناس ويحركهم للتصويت، ويقدم العرض صورا تقارن بين أداء وتصرفات أوباما ورومني يمكن من خلالها الحكم بأن أوباما ابن الشعب وقريب منهم يفهم لغتهم، سواء أكانوا عمالا أم أطفالا أم نساء أم رجالا يأكل كما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويصافحهم كأنهم أصدقاؤه دون أي شعور بالاستعلاء والفوقية التي تظهر على أداء رومني وكأنه ينزل من علو لمخاطبة جميع فئات الشعب الأمريكي، أوباما يلبس حذاء يمتلئ بالثقوب في صورة أبعد ما تكون عن التلقائية، فمن يقدر ان يقترب من رئيس الولايات المتحدة الى هذا الحد حتى يلتقط صورة عرضية لحذائه المثقوب من الأسفل دون اذنه في مكتب مغلق؟ ولكن هذه الصورة المقصودة التي وصلت للاعلام ترسل رسائل متعددة، أن العمل لديه أهم من المظاهر، وأنه أبلى حذاءه وأشياء أخرى في سبيل العمل للشعب الأمريكي، وعلى رأي الإعلام المصري يظهر أوباما أنه واحد مننا وزينا! بينما يتموضع رومني أمام طائرته الخاصة، ويمد رجليه لماسح الأحذية ليمسح له حذاءه! ولا داعي للتعليق أي الصورتين أقرب للقلب والعقل وصندوق الانتخابات! أوباما ينزل من الطائرة وهو ينط كالرياضي بملابس عادية وابتسامة عريضة، بينما رومني ينزل كالتمثال خطوة خطوة وكأنه يخاف أن ينكسر! يمارس الرياضة كمحترف بينما يتموضع رومني للصور فقط! لا ريب في أن أوباما يعرف البروتوكول والمشي كالرؤوساء، ولكنه كان يخاطب الشباب في مشيته ومرحه وثقته بنفسه، ونجحت الخدعة فأكثر أتباعه بحسب الاستطلاعات من الشباب الذين يرون فيه الحلم الأمريكي الحقيقي والإمكانات اللامحدودة حتى للمهمشين والأقليات. يجلس مع بناته كأب وسيرته مع زوجته حسنة، بينما رومني يجلس على أعصابه مع أطفاله وسيرته مع أغلب نساء أمريكا كالقطران؛ لأنه ينتمي إلى طائفة المرمون التي تسمح بتعدد الزوجات! الأول كسب الأمهات والآباء ورومني كان عاثر الحظ مع بنات حواء! حتى العرب والمسلمين حللوا صور أوباما على هواهم وحالوا استنطاق ما ليس فيها، وما ليس فيه بتجميع صور يكثر فيها اوباما استعمال اصبع السبابة، ويرفقونه بالتساؤل عن معنى ذلك، مع أن سيرته تنفي أي أحلام يقظة ما زالت عند العرب والمسلمين عن توجهاته، ولو كان يقربنا قيد أنملة لما أصبح رئيسا لأمريكا، ناهيك عن التجديد له! ما يقدمه العرض حقيقي وواقعي وله تأثيره في الأمريكي غير المسيس الذي يعتقد أن صوته يؤثر في صناعة السياسات، والنجاح في اختبار الحضور والقبول الجماهيري هو ما قد يحسم المعركة بين الفائز والخاسر! إذن فالانتخابات الأمريكية فيها الكثير من التمثيل والتظاهر، وقد لا يكون وجه ما بعد الانتخابات بحسن ما قبلها، ولكن على الأقل فالمرشحون يحاولون الاقتراب من الشعب، ولا يشترونه بالمال السياسي والرشاوي، وان كان لهذه أيضا مداخلها بالتبرعات السخية للمؤسسات والهيئات، ولكن الوضع ليس بالمأساوية التي نعايشها في حملاتنا الانتخابية في العالم العربي حيث المرشحين لا يملكون مظهرا ولا مخبرا! لا يملكون سوى المال الذي يفسد ذمم الناس وحياتهم قبل وبعد الانتخابات، وعلى مدار السنوات! صدق من قال: «السياسي يهز يدك في الانتخابات وثقتك بعدها!». الديمقراطية الحقة أن يكون للبرنامج والانجاز والتاريخ التراكمي كلمة الفصل، ولو كان للمرشح مثل عيون الجاحظ وشكل المعيدي، وغير ذلك توزيع للكراسي وضحك على الذقون!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.