لا يتوقف السعال في قسم فيروس كورونا في مجمع ناصر الطبي بخان يونس، فقبل أن تنتهي نوبة سعال وآنين لمريض، يبدأ مريض آخر بالسعال والحشرجة والاختناق، ولا مطمح ضمن هذه الحالة بأكثر من جرعة أوكسجين، تتلقفها رئتا المريض بلهفة وحنين، فالأكسجين هو العلاج الأولى لوجع يربض خلف أبواب الغرف، والأكسجين هو الراحة من تعب يتمدد بثقله على الستائر، والأكسجين محط أنظار اللاهثين إلى النفس، فقط النفس، جرعة هواء، ولا شيء على وجه الأرض يعادل قطرة هواء، ولا قيمة لكل الأشياء التي تطل على غرف المرضى من خلف الشبابيك، فما هو خارج أسوار المستشفى قد صار بعيدًا عن اهتمام المرضى، ولا يثير فضولهم، ولا يمت بصلة إلى عالم الشراشف البيضاء التي تلهث خلف جرعة هواء.
منذ لحظة استقبال المريض في العيادة الخارجية للمستشفى، يُوصَل المريض بجهاز الأكسجين، فكل مرضى كورونا في مستشفى ناصر بحاجة إلى الأكسجين، فالأنفاس مقطوعة، والصدور مغلقة، والأرواح معلقة بجرعة أكسجين، نجحت إدارة المستشفى في توفيرها لكل مريض، رغم قلة الإمكانات وضعف الموارد، فالقسم الذي يحتوي على 28 سريرًا فقط، هو محطة عبور، يدخل إليه المرضى لمدة يوم أو يومين، وبعد تقدير الحالة، وتقديم الإسعافات الأولية، يصير في اليوم التالي ترحيل المرضى إلى المستشفى الأوروبي، أو مستشفى الصداقة التركي، المهم أن يحافظ قسم كورونا في المستشفى على قدرته في استيعاب حالات الطوارئ، وتقديم الخدمات الضرورية.
في مستشفى ناصر الطبي تبدأ خدمة النظافة من الساعة الرابعة فجرًا، نظافة على مدار الساعة، لا تسمح بالغبش بأن يحط على السرير، وفي المستشفى يبدأ توزيع طعام الإفطار قبل السادسة صباحًا، وجبة مغلفة للمريض، وأخرى لمُرافق المريض، وهذا تطور تشكر عليه إدارة المستشفى، فما دام المرافق لمريض كورونا محجور ومحجوز داخل المستشفى، فالتعامل مع المرافق يتم على افتراض أنه مريض مقيم.
بقي الأهم من كل ما سبق، وهو الجهد الطبي المبذول لمساعدة المرضى، فلا تأفف أو ضجر، ولا ضيق أو ارتباك، رجال أقرب إلى الملائكة، يقومون بواجبهم الديني الإنساني بكل تفانٍ، فمنذ ساعات الصباح الأولى، يبدأ الممرضون عملية فحص الدم، ونسبة الأكسجين في دم المرضى، يقيسون الضغط والسكري وضربات القلب، وهم يُوثّقون ذلك في كشف، كي يطلع عليه الأطباء في أثناء الجولة الصباحية، ويقرروا ما يلي.
ومنذ الصباح الباكر، يبدأ تعليق المحلول للمرضى في قسم كورونا، كلٌّ وفق كتابه المعتمد من الأطباء، مع مضادات حيوية مكثفة، إنها معركة يخوضها الأطباء، لا تقل شراسة عن معركة المواجهة مع الصهاينة، وقد تكون أشد، فالوضع لا يحتمل أدنى نسبة من الخطأ، عمل دؤوب ومتواصل ومنظم، لا يعكس حال سكان غزة خلف أسوار المستشفى، فمشهد الانتظام والربط والضبط والالتزام يعكس واقعًا مغايرًا لواقع الحياة في الأسواق والمرافق العامة.
حين سألت أحد الممرضين عن دخله الشهري أفاد: نتقاضى 1200 شيقلًا شهريًّا، مبلغ من المال لا يفي بأدنى متطلبات الحياة، ولا يسد الرمق، ولكن الممرض والطبيب المعالج يدركون أنهم يقومون بالواجب الإنساني والديني، ولا يلتفتون للراتب رغم أهميته، ورغم قيمته المعيشية، وهذه رسالة إلى المسؤولين، بأن هؤلاء العاملين في هذه الظروف الاستثنائية، وهم يحتكّون مباشرة مع فايروس كورونا، ويقاتلونه داخل صدر المرضى، هؤلاء الأطباء والممرضون بحاجة إلى التفاتة إنسانية ومعيشية، فما يقومون به من عمل لا يقف عن حدود الوظيفة، وإنما تجاوز ذلك إلى حدود الولاء والوفاء والانغماس الكامل في كل ما ينفع الناس.