تعلمنا أن لغة العواطف أقل صوتا ووزنا من لغة العقل، وأنها على الأخص ليست مناسبة للتعاطي مع ظروف السياسة والحرب والاحتلال والشهادة والدماء والقتل والتشريد، ونسينا أن الصمود لهذه المآسي لا يكون الا بحالة مستغرقة من الحب، تملأ على المجاهد قلبه فلا يرى فرحه سوى بالتضحية بروحه لمحبوبته الأرض، وماذا يؤنس الأسير في ظلمة زنزانته سوى ذلك الحب، والتلاحم مع الوطن الذي يشعل قناديل روحه وبصيرته، ماذا يصبر الأم الثكلى والزوجة الأرملة والأبناء اليتامى سوى حب الوطن. نعم هو الحب الذي يحرك العظمة في نفوسنا، ويدفعنا إلى بلوغ المعالي، هو الحب الذي يثبت انسانيتنا على الرغم من الوحشية المفروضة علينا، هذا الحب استخدمه الفلسطينيون كسلاح من نوع جديد؛ لاحياء الذاكرة واعادة تثبيت الجذور المقتلعة في الأرض والعقول والقلوب. «باب الشمس» الرواية الأدبية لإلياس خوري حلقة عن مسلسل التشريد الفلسطيني، تتحول من صفحات الورق الى حقيقة واقعة على أرض فلسطين، بقرية يقيمها الفلسطينيون في المنطقة التي تربط الضفة الغربية بالقدس وجنوبها، والتي صادرها الاحتلال لبناء مستوطنات جديدة عليها، وهذا يدلل على أهمية الأدب والإعلام في صناعة وترسيخ الذاكرة وأثره الفعال عندما يكون ملتزما بقضايا الأمة، أو أثره المدمر لو تواطأ عليها؛ حتى ينسى الناس ويكتمل مسلسل الضياع. عادت الذاكرة الواقعية والأدبية لتشعل الصمود في الحاضر، فجزء من علاقتنا بأرضنا هي تلك الذكريات والقصص التي ورثناها عن أبائنا حتى أصبحت جزءا من كياننا وميراثنا، والقصة من المصادر التي تثبت أن لك مع أرضك تاريخاً وماضياً وحاضراً ومستقبلا، وكأنها تقوم مقام صكوك الملكية؛ ولذا قال أحد النقاد: «إذا كانت هذه أرضك، فأين قصصك؟»if this is your land, where are your stories? وهذا ما حاول العدو الصهيوني أن يفعله بكتابة التاريخ وإعادة البحث والتنقيب؛ للبحث عن أثر يربطه بهذه الأرض ولو في صغر حجر! ولم يجد ليظل عابرا غير مستقر على أرض لا تقر له بالمكوث والمقام. «باب الشمس» في الرواية مغارة ضيقة، ولكنها توسعت بالحب حتى أصبحت الوطن كله الذي أخرج زوجا وزوجة، حبيبا وحبيبة، أبا وأما، مجاهدا وثائرة، وكانت صورة شعب بأكمله جُر الى الضيق جراً، ففتح في قلب الضيق بابا لتدخل منه الشمس والضياء. يونس أو ابو سالم بطل القصة هو ايضا المجاهد الذي يحاول أن يعيش حياة طبيعية، وهو في ذلك رمز لكل الشعب الفلسطيني، أما زوجته نهيلة فتنتقل من صفة المرأة لتمثل الأرض والوطن، ويقول يونس في وصفها: «إنها كالمواسم، وفي كل موسم تأتي كهفك برائحة جديدة.. المرأة يا بني جديدة دائما.. المرأة رائحة العالم، وأنا معها تعلمت أن أملأ رئتي برائحة الأرض». إن التعاطي برؤية إيجابية مشرقة مستشرفة يزيد في إذكاء وقود الصمود، فالذي يقاوم مسنودا بالأمل ليس كالذي حكم على نفسه بالخذلان قبل المعركة الحقيقية، وهزيمة الإرادات أنكى من الهزيمة على الأرض، واسقاط الانسان في غياهب النسيان يضمن احتلالا دائما. الخطوة على رمزيتها ترسل رسائل كثيرة للداخل والخارج بأن الشعب الفلسطيني محكوم بالأمل وبرغبة الحياة، وهو أمل يقيني في أن شمس نصرهم لن يغطيها الغربال الصهيوني، قد يحجبها قليلا بالجدران والعوازل، لكن الشمس تعرف كيف تنفذ دائما ولو من أصغر الشقوق. الخيام القليلة التي أقامها النشطاء الفلسطينيون العزل؛ لرفض الاستيطان وفصل القدس، تسلط شمسا حارقة وكاشفة تعري سوأات المسؤولين، والرخويات الثورية المتواطئة، وتثبت أن فلسطين لن يحميها الا شعبها ورجالها. «باب الشمس» كُتبت قصة وصارت قرية، وستبقى أرضا خالدة طاهرة مباركة، تعرف أهلها كما يعرفونها.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.