المكان: غرفة أحمد، حيث في الزاوية اليمنى جهاز "الكمبيوتر" الخاص، - الزمان: ليست إجازة رسمية ولا يوم جمعة، فيما أعلنت عقارب الساعة اقتراب وقت منتصف الليل، المشهد رقم (1) : ابتسامةٌ صفراء تعلو وجه صاحبنا، وطلاسم لا يفهم منها سامعها شيئًا إلا أن أحمد رااااضٍ تمامًا.. وتنهيدةٌ طويلة يغرق بعدها في أحلامٍ وردية نسجها بكافة ألوان الطيف.. - المشهد رقم (2): عند الباب تقف أخته مريم التي بحّ صوتها تنادي عليه كي يشاركهم العشاء، تنظر إليه محاولةً فهم ما يتمتم به، وتفتح فاها بعد ألف مرةٍ ضربت فيها الأرض بقدميها.. تقترب منه رويدًا رويدًا.. وتبادره بسيلٍ من الوكزات العنيفة ("أحمـد.. أحمـد.. أحمـد هييييي أنت.... يلاااا قوم سنة لما ترد شو ما بتسمع؟.. يا رب صبرني".. يطال صوتهم مسامع الجيران الذين باتوا يعرفون أن بدء هذه المعارك اليومية في نفس الوقت تقريبًا تعني أن "أحمد" متشبث بشاشته "الفيس بوكية"، ولا يريد مفارقتها ولو على قطع خيوط شبكته العنكبوتية وحظر صفحته الشخصية! تخرج مريم تجرّ وراءها أذيال الخيبة، تلملم يأسها من حال أخيها، وتصرخ بصوت القهر تخاطب أمها :"يااااااااالله شو هالمصيبة إللي اجتنا؟.. كنا بانترنت وماسنجر.. صرنا بفيس بوك وتوتير"! تك.. تك.. تقترب عقارب الساعة من الرابعة فجراً وتزيح الشمس ستارها وصياح الديك يعلن قدوم الصباح.. ينام أحمد ذو الـ (17 ربيعًا) بضع ساعات، ويستيقظ كمن صُبّ فوق رأسه "دلو ماء".. يتجه نحو جهازه، وتعود المشاهد السابقة لتتكرر ولكن هذه المرة منذ بداية النهار! [title]ضاع الولد[/title] "أحمد والدتك تنادي عليك.. أحمد صديقك يريدك على الهاتف... أحمد سنذهب إلى البحر تعال معنا... أحمد تعال شاهد مباراة لفريقك المفضل.." وتستمر حلقات الإغراء بالتدفق على مسامعه والإجابة واحدة لا تتغير "أوووووف حلوا عني... أنا مشغووول". وهي تصب جام غضبها على الفيس بوك ومن اخترعه قالت والدة أحمد: "هو في عالمه الخاص منذ شهور، لقد نسي أن له أبًا وأمًّا وإخوة، وحتى أصدقائه المقربين لم يعد يحفظ ملامحهم وأسماءهم.. فهو لا يفارق هذا الجهاز اللعين.. لقد سرقه منا". وهي تضرب كفًّا بكف تابعت: "لقد تقوقع في عالمه الخاص بعيدًا عن الواقع والعالم الحقيقي وباتت الصفحات الاجتماعية مأواه وملاذه يهرب إليها حتى من نفسه.. كأن صفحته الشخصية هي بيته وغرفته.. وأصدقاءه الافتراضيين هم أسرته وعائلته"، مستدركةً بأسف: "بت أخشى عليه كثيرًا فهو في مرحلة حرجة من عمره وتلك الصفحات مليئة بالأشباح والشياطين البشرية، وأصدقاؤه معظمهم وهميون.. ويبدو أنني سألجأ للحل الأخير وأكسر جهاز الحاسوب وأحرمه منه للأبد". وأكدت أنها ووالده قد أصدرا مجموعة من العقوبات الصارمة بحقه حتى ينتشلاه من مستنقع الإدمان والهوس الإلكتروني الذي سلب عقله ووجدانه, وحرمه من إقامة علاقات اجتماعية حقيقية على أرض الواقع. [title]هوَس بوك[/title] أحمد ليس الوحيد الذي استسلم للغزو "الفيس بوكي" وإخوانه من الصفحات الاجتماعية التي تحتوي على الغث والسمين والهزيل والمريض, فهناك آلاف الشباب الغزيين الذين باتوا من المدمنين على تلك الصفحات وتركوا عقولهم مسرحًا للعبث والفوضى الإلكترونية. إياد فؤاد (16 عامًا) أحد المصابين بـ"الهوس بوك" ويقضي أكثر من سبع ساعات يوميًّا أمام صفحته الشخصية, وكلما زاد عدد أصدقائه، رضيَ غروره أكثر وشعر باستمتاعٍ أكبر. وهو منخرط في الدردشة مع أحد رفقائه الإلكترونيين قال: "جلّ وقتي أقضيه هنا أتحدث مع هذا وأشارك بصفحة ذاك وأبحث عن البرامج المسلية والممتعة.. وأضيف الأصدقاء سواء كانوا وهميين أو حقيقيين.. ولا يهمني إن كانوا يستعملون أسماءهم الحقيقة أو لا، فالمهم ألا أنقطع عن عالم الاتصال وأبقى موجودًا أكبر وقت ممكن", بفخرٍ استدرك: "عندي أكثر من 500 صديق وفي الأيام القادمة سيكونون أضعافًا". بينما وجدت "تغريد حيدر" ابنة الـ 17 ربيعًا، في الصفحات الاجتماعية ملاذًا لها فقد فصلت عالماً على مقاسها الخاص للهروب من الملل الصيفي والروتين اليومي، إلا أنها لم تمكث طويلا في هذا العالم الافتراضي الذي سلبها شخصيتها الحقيقية وحياتها الاجتماعية. وعن حكايتها "الفيس بوكية" قالت تغريد: "بالبداية وجدته ملجأً لي من الروتين اليومي القاتل، فمن عزيزي الفيس بوك، أعرف أخبار صديقاتي وأقف على جديدهم وأنا جالسة في بيتي خلف الشاشة الملونة.. وبعد عدة أشهر وجدت نفسي مدمنة، وإذا غابت الكهرباء عن المنزل تبدو الحياة كئيبة سوداء لا لون لها". لكنها وبعد أن استيقظت من حلم الحياة في مستنقعٍ افتراضي، قررت أن لا تستسلم لهذا الكائن الالكتروني الذي احتل عقلها وخيالها, بل قاومته بكل شراسة حتى نزعت آخر خيوطه العنكوبيته من جسدها وروحها, ورجعت إلى عالمها الحقيقي وبرمجت حياتها من جديد دون إفراطٍ أو تفريط. [title]صدمة إلكترونية[/title] وإذا كان الإنترنت أكثر ظواهر العصر جذبًا لمستخدميه فإن شبكة الاتصالات الاجتماعية "فيس بوك وتوتير وأخواتها" تعد بلا منافس أكثر هوسًا وأشد جذبًا لفئة الشباب والمراهقين. وتشير إحدى التحليلات المفسرة لهذا الأمر إلى أن عالمنا العربي لم يكن مؤهلا لدخول عصر ثورة المعلومات والاتصالات، فكان الأمر أشبه بصدمة حضارية غير متوقعة لأناس لم يألفوا التعامل مع مصادر المعلومات، خاصة لو كانت بشكلٍ متدفق وبلا انقطاعٍ أو قيود أو شروط أو حجب أو ترشيد.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.