تبكي .. ويعلو صوت بكائها المحروق .. وكأنه يخرج من فوهة بركان منع من الانفجار لسنوات طويلة .. ياالله لم تتمالك نفسها، خرجت من القاعة مسرعة وصوت بكائها يعلو .. تعثرت قدماها وهي تحاول إخفاء دمعاتها أثناء هروبها من نفسها إلى نفسها . "سحر" ،وهو بالمناسبة ليس اسمها الحقيقي، لم تتصور يوماً أنها ستكون في ورشة عمل نظمتها مؤسسة تدريبية رائدة في قطاع غزة للتفريغ النفسي لمجموعة من زملائها الإعلاميين الذين كنت واحداً منهم مع أخصائية مصرية قدمت إلى غزة في زيارة هي الثالثة منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 2008. " شو هتستفيد .. يا شيخ روح استفيد من وقتك في شيء آخر ينفعك أكثر.. إحنا ناقصنا تفريغ نفسي شو هالكلام الفاضي " هكذا حدثتني نفسي بصراحة عندما وجهت لي الدعوة من قبل مركز تدريب فلسطين التابع لصحيفة فلسطين المحلية ، لكن رغبة في المعرفة وفضولي دفعني للمشاركة رغم أنني من داخلي لم أكن مقتنعاً بصراحة . لست أنا الوحيد أو زميلي الذي تهكم على ورشة العمل فقط من لا يقتنع بهذه "الخزعبلات" كما وصفها لي البعض ، لكن كثيرين ممن قابلتهم تكلموا بمثل هذه الكلمات بل أكثر . الطالبة "نور" وهي طالبة جامعية ضحكت عندما وجهت لها السؤال عن معرفتها بعملية التفريغ الانفعالي أو النفسي واعتبرته أمراً غير ذي جدوى إضافة لأنه لا يفيد كما قالت في بلد مثل غزة "كل يوم قتل وكل يوم مجازر وكل يوم هموم شو هنفرغ لما نفرغ .. احنا بلّدنا وتعودنا"... هي بصراحة كانت معبرة عن مجموع كثيرين قابلناهم كانوا بنفس المفهوم والنظرة للموضوع. "سحر" عندما بكت لم تكن تحدثت بعد بل استمعت لزميل لها فرضت عليه حادثة فقد لشخص عزيز خلال الحرب العدوانية على قطاع غزة عام 2008 حالة من الإنكار للواقع هو لم يكن يعلم أن تصرفاته التي تغيرت شيء له علاقة بحالة نفسية معروفة . فـ"محمد" صحفي من غزة فقد عزيزاً عليه خلال الحرب لكنه لم يشارك في جنازته ولم يزر قبره ولم يكتب عنه رغم أنه صحفي ويعمل في المجال منذ وقت طويل، مرت سنوات أربع بعد انتهاء الحرب وهو يرفض التعامل مع هذا الواقع عبر ما وصفته المشرفة المصرية بحالة "الإنكار" . تفاجأنا جميعاً بتوصيفات المشرفة الدكتورة دالية الشيمي لحالاتنا جميعاً بعد مكاشفتنا ولأول مرة في حياتنا جميعاً لما يختلج صدورنا من مشاهد لا يمكن نسيانها وحديثنا معها عن بعض الجوانب التي تغيرت في شخصياتنا ومعاملاتنا ونظرتنا للأمور بعد كل أزمة أو حالة صعبة . تضحك تارة .. وتستمع بانصات تارة أخرى ، وتصف المشهد النفسي للمشاركين في وقت آخر .. تستوقفها بعض العبارات فتتوقف عندها وكأنها تقرأ فيها شيئاً لم ينتبه له الجميع .. داليا الشيمي وهي خبيرة دولية في التفريغ النفسي تعرف أن سكان قطاع غزة الذين تعرضوا خلال أقل من أربع سنوات لعدوانين كبيرين كانا الأبرز في محطات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي يعانون آثاراً نفسية مدمرة . همس في أذني أحد المشاركين معنا لافتاً انتباهي إلى آلاف المؤسسات الفلسطينية التي تنفذ مشاريع تتعلق بالتفريغ النفسي للأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة عبر وسائل وأساليب متعددة لكن الكبار في الحقيقة ومن كافة الفئات العمرية والاجتماعية بحاجة ماسة وهو ما لم تلتفت إليه أحد من هذه المؤسسات. فالتركيز الأكبر لكافة المؤسسات التي تعنى بالموضوع أو التي تقحم نفسها في هذا المجال أملاً في "رزقة منيحة" لبعض المتطوعين لديها لا تفكر إلا في قطاع الأطفال وهو أمر مهم وحيوي إن نفّذ بطريقة سليمة وهو ما لا أؤمن بتحققه على مدار السنوات الماضية ، إلا أن الكبار في قطاع غزة على وجه الخصوص بكافة طبقاتهم الاجتماعية ومراكزهم المجتمعية ووظائفهم المختلفة يحتاجون إلى عملية تفريغ نفسي وبشكل دوري حسب المختصين . لا تتفحص نفسك وتوهمها أنك سليم ولا يعنيك الموضوع فأنا كنت مثلك أعتقد ذلك .. كلنا تعرضنا لمواقف قاسية ربما تؤثر على سير حياتنا دون أن نعي ذلك أو نشعر به . فصورة أشلاء صديقك أو جارك الذي كان يصلي معك في المسجد ويمر من أمام بيتك كل يوم يلقي عليك السلام وتلقاه بابتسامة وتحتسي معه الشاي أمام باب المنزل أو في غرفة جلوسك لا يمكن لها أن تمر مرور الكرام . لربما يصل الإنسان إلى مرحلة من اللامبالاة برؤية مثل هذه الصور حتى لأقرب المقربين .. لا تفرح لامتلاكك هذه المهارة فهذا يعني أن عقلك وقلبك قد اكتفيا من المناظر ما جعلك بحاجة ماسة لتفريغهما لتعود "إنساناً" عادياً يشعر بالأمور على حقيقتها دون بلادة ولا مبالاة . فمشهد الأشلاء والدماء وفقد الأحباب والأصدقاء وإصابتهم ليس مشهداً عادياً بل هو مشهد قاسي لابد أن تتأثر به وتنزعج لأجله وإن أحسست بغير ذلك فعليك أن تقوم بتخفيف الحمل القديم من الصور والأفكار عبر البحث عمن تلقي إليه بهذه الحكايا الصعبة والمشاهد الصعبة لتعود "إنساناً" يشعر ويتأثر.. هكذا فهمت على الأقل من حديثها الذي امتد مع الدكتورة الشيمي لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة . "ليس عيباً أو مخالفاً للشرع أو للطبيعة الإنسانية أن تشكو همك للبشر" قالت الشيمي .. فتحت هذه العبارة جدلاً بيننا في القاعة خلصنا بعده إلى ضرورة فعل ذلك فالاحتضان لمن تحب والمسح على رأس اليتيم .. والكلمة الطيبة ولمس اليدين لشقيقة لك تحادثها أو أخ يتكلم معك كفيل بإعطائه جرعة من الحنو الإنساني والعاطفة التي هو بأمس الحاجة إليها .. "كلنا بحاجة للتفريغ النفسي .. يا ريت يصح للإنسان بين فترة وأخرى مثل هذه الجلسات ".. باعتقادي كانت أنفس كل المشاركين تحدثهم بهذه العبارة وأجسادهم تغادر الغرفة التي احتوت بعض أنفاس قلوبهم في طريقهم لمعترك الحياة التي يأملون أن تكون في قابل الأيام أجمل. عزيزي لا تفوت الفرصة إن حانت .. هذه نصيحتي لكل المترددين في خوض التجربة و لكن لتكن مع المختص العارف والفاهم بصراحة لأنني وبكل وضوح عرفت اليوم أن الكلام يكون أحياناً من ذهب والسكوت من نار وعذاب .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.