رمضان الماضي كان الأصعب على المقدسية إيمان الأعور، وهي معتقلة في السجون الإسرائيلية. ليس لأنها حرمت من قضائه مع عائلتها، ولكن لأنها كانت المرة الأولى التي لا تستطيع فيها الوصول للأقصى والصلاة والاعتكاف فيه، تقول "تزامن اعتقالي مع اعتقال زوجي وابني، ووالدتي كانت مريضة، ولكن كل ذلك كان أهون من حرماني من الصلاة في الأقصى، كان وقعه كارثيا على نفسي".
الأعور (45 عاما) من بلدة سلوان الواقعة إلى الجنوب من المسجد الأقصى. أفرج عنها في مارس/آذار الماضي بعد اعتقال دام شهرين، قضتها في سجن الدامون شمال فلسطين المحتلة حيث تحتجز جميع الأسيرات.
تقول للجزيرة نت "في البداية لم أستوعب كيف أقضي رمضان في السجن. حزني الأكبر كان على الأسيرات اللواتي اعتقلن وهن قاصرات وكبرن في السجن، كيف تحملن كل هذا الألم الذي يتجدد كل عام".
الأسيرة المحررة إيمان الأعور من بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى (الجزيرة)
والأعور أم لـ 6 أبناء ولها 7 أحفاد، كانت ممنوعة من الزيارة خلال فترة اعتقالها، لذا كانت خلال رمضان تحاول استحضار كل ذكرياتها معهم، وخاصة أحفادها الذين اعتادوا مرافقتها إلى الأقصى.
حزنها لم يمنعها من الانخراط مع الأسيرات في فعاليات هذا الشهر، على العكس، كانت لهن مرجعية حول كل ما يتعلق بالأقصى والقدس، وخاصة في أيام رمضان الأخيرة حيث الأحداث التي وقعت في الأقصى خلال هبة مايو/أيار (العام الماضي).
معاناة الأعور خلال شهر رمضان لم تختلف عن معاناة 32 أسيرة فلسطينية تعتقلهن إسرائيل في سجن الدامون، بينهم أمهات وقاصرات، يحاولن بكل ما أوتين من قوة التغلب على أحزانهم وخلق أجواء رمضان خلف القضبان.
اشتباكات بين قوات الأمن الإسرائيلية ومصلين فلسطينيين في المسجد الأقصى بالقدس في مايو/ أيار 2021 (الفرنسية)
طعام بنكهات غزاوية
نسرين أبو كميل التي أفرج عنها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أمضت رمضان 6 مرات في الأسر. وفي كل عام يكون مناسبة للحزن وهي التي تركت أبناءها الستة خلفها ومنعت من الزيارة طوال فترة اعتقالها، تقول "أخجل من إظهار حزني أمام الأسيرات القاصرات، ومن جهة أخرى أشعر بضيق لا يحتمل".
أبو كميل (46 عاما) خلال الاعتقال عزلت بالكامل عن أبنائها سوى ما يصلها منهم عبر الإذاعة، فلا زيارات ولا اتصالات هاتفية. قالت للجزيرة نت "كنت أستغل رمضان لتقديم طلب الاتصال هاتفيا دون جدوى، تركت ابني الصغير 8 أشهر فكبر ولم أعرف شكله".
ما كان يخفف عن أبو كميل وباقي الأمهات هو مساندة الأسيرات لبعضهن في رمضان، والمحافظة على أبسط مظاهر الشهر الكريم داخل الأقسام والغرف، وخاصة في إعداد الطعام وتنوع الأصناف. برنامجهن اليومي كان مقسما بين قيام الليل وقراءة القرآن والعبادات حتى الفجر، والنوم إلى موعد العدد الصباحي -تقوم إدارة السجن بعد الأسيرات 3 مرات في اليوم- ثم الخروج للساحات حيث يجتمعن ويتبادلن الأفكار والوصفات.
المحررة نسرين أبو كميل خلال مشاركتها باعتصام قبالة معبر بيت حانون حتى يسمح لها بالعودة لزوجها وأولادها السبعة (الجزيرة)
وفي كل غرفة من القسم -تحتجز في كل غرفة 6 أسيرات- طباخ كهربائي، تطلق عليه الأسيرات اسم بلاطة، وتقوم إحداهن بإعداد الطعام لكل الغرفة. وفي أيام محدودة وبعد تقديم طلب من ممثلة السجن للإدارة، يسمح بالإفطارات الجماعية بين الغرف.
أبو كميل كانت تأخذ هذا الدور في غرفتها، فتقوم بإعداد الطعام بنكهات غزاوية، وخاصة القدرة والدقة الغزاوية والقطايف.
وتخصص إدارة السجون الإسرائيلية يوميا لكل أسيرة حبة بطاطا وبندورة وبصل وخيار ونوع فاكهة، ويوم الخميس "ستيك" تركي، ويوم الجمعة قطعة دجاج والثلاثاء لحم، وتقوم الأسيرات باستكمال ما ينقص من الكانتين (بقالة السجن)، أو إيجاد البدائل، فتعد الكنافة من خبز التوست، وبدلا من الخميرة يستخدمن المشروب الغازي في إعداد القطايف.
وكل ما تحاول الأسيرات فعله في شهر رمضان هو استحضار مظاهر الشهر الكريم بقدر ما يستطعن.
مسابقات رمضانية
سلام أبو شرار التي اعتقلت عام 2016 شهدت آخر رمضان للأسيرات في سجن هشارون، قبل نقلهن إلى سجن الدامون وإغلاق القسم، وهي الفترة التي شهدت اعتقال عدد كبير من الأسيرات القاصرات والمصابات في أعقاب انتفاضة الأقصى.
أبو شرار من مدينة الخليل، كان عمرها 21 عاما، ومع ذلك كان مطلوبا منها إخفاء مشاعر الحزن وبث أجواء إيجابية للأسيرات القاصرات، "كنا نستنفد طاقتنا بالتفكير ووضع برنامج رمضاني كي نهرب من التفكير أننا بعيدات عن عائلاتنا، ونجتهد بمحاولة إخفاء شعورنا بالحزن"، قالت للجزيرة نت.
سلام أبو شرار كانت تتحايل على وجودها في الأسر وتتناول الطعام على أنها في ساحات الأقصى (الصحافة الفلسطينية)
في اليوم الأول من رمضان، سمحت الإدارة للأسيرات بساعة "فورة" إضافية -الخروج للساحات- فكان الإفطار الجماعي والصلاة في الساحة مما خفف عنها وعن غيرها من الأسيرات.
تستذكر شرار كيف كانت تتحايل على وجودها في الأسر، بالجلوس على أرضية الغرفة هي وأسيرة من القدس وثالثة من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ويتناولن الطعام على أنهن في ساحات الأقصى، وما هي إلا أيام حتى انضم لهن عدد آخر من الأسيرات.
وكانت أبو شرار تشارك الأسيرات في كل المسابقات التي يتم تنظيمها في القسم خلال هذا الشهر، سواء مسابقات المعلومات العامة أو تلاوة القرآن، وهو ما كان يأخذ من يومها الكثير.
قضت أبو شرار 20 يوما من رمضان ذلك العام في هشارون، ونقلت في الأيام الأخيرة إلى الدامون وهناك اجتمعت بابنة عمها "صابرين أبو شرار"، وكانت بالنسبة لها فرحة لا توصف "شعرت حينها حقا أنني بين عائلتي".
المحررة عطاف عليان: كنا نحاول الحفاظ على كل قيم رمضان واستحضار أجوائه وروحانياته من الخارج إلى السجن (الجزيرة)
رمضان الأصعب.. في العزل
أوضاع الأسيرات حاليا على صعوبتها، لا تقارن مع كانت عليه في السابق، كما تقول المحررة عطاف عليان التي واكبت هذه الأوضاع منذ اعتقالها الأول في العام 1987.
عليان قضت في الاعتقال الأول 10 سنوات متواصلة وأفرج عنها بعد توقيع اتفاقية أوسلو ضمن ما عرف بتبييض السجون من الأسيرات، ثم اعتقلت إداريا 8 أشهر في العام الذي أفرج عنها فيه، ثم أعيد اعتقالها 11 شهرا في عام 2003، وكان اعتقالها الأخير في 2005، وأفرج عنها في العام 2008.
خلال حديثها مع الجزيرة نت، تستذكر رمضانها الأول في السجون قبيل الانتفاضة الأولى بأشهر. في ذلك الحين كانت أعداد الأسيرات قليلة ويحتجزن في سجن الرملة في ظروف صعبة للغاية، لم يتوفر طباخ في الغرف ولا سخان مياه ولا أدوات أكل (أواني طبخ وملاعق)، وتناول الوجبات كان في قاعة مشتركة مع الجنائيات الإسرائيليات، فكان الخيار الوحيد لديهن هو المعلبات والاحتفاظ بالوجبات التي تقدم في موعدها من إدارة السجن -دون مراعاة لخصوصية رمضان- مع استثناء وحيد هو السماح لهن بإدخال الوجبات إلى الغرف.
وبعد خوض الأسيرات لاحتجاجات ومع تزايد أعدادهن خلال الانتفاضة نُقلن إلى سجن هشارون، وهناك اتهمت عليان بالاعتداء على سجانة إسرائيلية ومحاولة قتلها، فتحولت للعزل الانفرادي 4 سنوات متواصلة، وكان في أولها شهر رمضان الأصعب الذي قضته في السجون، قالت "احتجزوني في غرفة مغلقة بالحديد وحيدة وأخرج إلى الساحة وحيدة".
بعد أيام من نقلها للعزل كان اليوم الأول من رمضان، ورغم شخصيتها القوية وصلابتها فإنها "بكت" وهي تتناول طعام الإفطار وحيدة "حينها فقط شعرت أنني معتقلة، وتوجهت بالدعاء يا الله اكتب لي إفطارا مع الجماعة"، فكانت الاستجابة في اليوم الثاني عندما تفاجأت بنقلها لمركز التحقيق المسكوبية للتحقيق بتهديد سجان، وفي ذلك اليوم تناولت إفطارها مع الأسيرات الموقوفات.
فلسطينيات يشاركن في مظاهرة نظمتها حركة الجهاد الإسلامي تضامنا مع الأسيرات الفلسطينيات المحتجزات في السجون الإسرائيلية (الفرنسية)
4 سنوات قضتها في العزل لتخرج إلى الأقسام العادية بعد خوضها إضرابا فرديا، وبعد أسبوعين كان قرار الأسرى بكل السجون خوضهم الإضراب عام 1992.
"جميع مطالب الأسرى تحققت في هذا الإضراب، وهو ما جعل الحياة داخل السجن أفضل، وخاصة في رمضان، ففي كل غرفة يوجد طباخ، بالإضافة إلى تعدد الأصناف التي تباع في "الكانتين" والسماح للأسيرات بالحصول على مكونات الوجبات وإعدادها بأنفسهن".
تضحك عليان وتتابع "أكثر ما ميز الإفطارات بعد هذا الإضراب هو وجود المشروبات الغازية التي أضيفت إلى قائمة الكانتين بطلب من الأسيرات، أمور بسيطة ولكنها كانت تعني لنا الكثير".
ومن المطالب التي تحققت أيضا زيارات الغرف، فأصبحت الأسيرات ينظمن إفطارات جماعية لأكثر من غرفة، ويتبادلن الطعام والصدقات أيضا "كنا نحاول الحفاظ على كل قيم رمضان واستحضار أجوائه وروحانياته من الخارج إلى السجن".