الذي يقرأ التاريخ يكتشف أن أخطاء القادة ليست كأخطاء غيرهم، فالخطأ الواحد للقائد قد يؤدي إلى هزيمة نكراء، تهرق فيها الدماء، وتحتل الأرض، وينتهك العرض، وقد يؤدي إلى ضياع فرص ثمينة لن تتكرر، وقد يأتي بنتائج تعاني منها الأجيال لآلاف السنين. ولا يمنع من حصول الدمار نتيجة للخطأ الواحد أن يكون صاحب الخطأ قائداً مخلصاً جاداً موفقاًً منتصراً؛ لذلك يتوجب على قادة الأمة في هذا العصر أن يفكروا ملياً قبل اتخاذ القرارات، وأن يحيطوا أنفسهم بالثقات، أولي الخبرة والرأي السديد، وأن يعتمدوا دائماً مبدأ الشورى، لأنها لا تأتي إلا بخير. وأخطاء القادة المدمرة في التاريخ كثيرة، لكننا سنقتصر على ذكر أربعة فقط، وهي: 1- بالرغم من الفضل الكبير لعقبة بن نافع في فتوح المغرب إلا أن التاريخ سجل له خطأ كانت نتائجه وخيمة، إذ أنه طلب من كسيلة زعيم قبيلة أوربة البربرية المشاركة في سلخ الشياه مع الجند، فقال له كسيله:"غلماني يكفوني"، فأصر عقبة، فاستاء أبو المهاجر دينار وقال لعقبة غاضباً:" بئس ما صنعت كان رسول الله (ص) يتألف جبابرة العرب، وأنت تأتي إلى رجل جبار في قومه في دار عزه، قريب عهد بالشرك، فتهينه"، فتهاون عقبة بكلامه؛ وقام كسيلة وأخذ يسلخ ويلوث وجهه ولحيته بالدهن تحريضاً لأبناء قبيلته، الذين غضبوا وانشقوا معه وارتدوا عن الإسلام، وانضموا للروم، وكانوا نحو خمسين ألفاَ، وعندما عاد عقبة منتصراً من فتوحه في المغرب الأقصى، أخطأ خطأ آخر، إذ لم يحذر من غدر كسيلة، ولم يأخذ بنصيحة دينار، الذي قال له:"عاجله قبل أن يستفحل أمره"، بل طلب من جنده أن يسبقوه إلى القيروان، وعرج هو بخمسة آلاف إلى مدينة تهودة ليفتحها، وعندما وصلها وجد كسيلة يحاصره بأكثر من خمسين ألفاً من البربر والروم، فاضطر لخوض معركة غير متكافئة، استشهد فيها هو وأبو المهاجر ومعظم قادته وجنده وأسر الباقون . 2- سجل التاريخ للخليفة الوليد بن عبد الملك فتوحاً لم يسجل مثلها إلا في عهد الراشدين، إذ فتحت في عهده المغرب والأندلس والسند وبلاد ما وراء النهر، لكنه سجل له خطأ كلف المسلمين الكثير. فقد علم الوليد أن موسى بن نصير عزم على العودة إلى دمشق بعد أن يفتح أوروبا ثم القسطنطينية، فعد ذلك تهوراً وتغريراً بالمسلمين وتعريضاً لهم للخطر، فأرسل مغيثاً الرومي يحمل أمراً إلى موسى بوقف القتال فور وصول الرسول، لكن موسى تمنى على مغيث أن يمهله حتى يفتح آخر معقل للقوط في أسبانيا وهو "صخرة بلاي"، وشرح له خطورة وقف القتال قبل تحقيق ذلك، ووعده أن يعطيه أملاكه الخاصة من غنائم قرطبة مقابل إمهاله، فوافق مغيث، لكن الوليد أرسل رسولاً آخر، وحمله رسالة شديدة اللهجة إلى موسى، وكلفه بتولي أمر الأندلس والعودة بالجيش إن أصر موسى على مواصلة القتال، فاضطر موسى لوقف القتال قبل أن يتم فتح الأندلس، ويحقق خطته بفتح القسطنطينية وأوروبا، وكانت النتيجة أن فلول القوط المختبئين في صخرة بلاي، اتصلوا بالفرنجة وحصلوا على دعمهم، وبدءوا حرباً صليبية ضد المسلمين، كلفتهم ما لا يحصى من الشهداء، وانتهت بسقوط الأندلس، وبإخراج المسلمين منها نهائياً بعد ثمانية قرون، كما أدى هذا الخطأ إلى حرمان أوروبا من الإسلام، وبقائها معادية محاربة للإسلام والمسلمين إلى يومنا هذا. لقد كان على الوليد أن يتخذ قراره بناء على معلومات يعتمد فيها على موسى وغيره ممن لهم دراية بواقع الأندلس، ويقدر وجهة نظر قائده، الأعلم بأحوال البلاد، والذي كان يريد أن يستغل حالة الانهزام والهروب للعدو، ولا يتيح له فرصة لالتقاط أنفاسه، ولملمة صفوفه، كما كان عليه أن يستغل حماس موسى وانتصاراته بإرسال المزيد من القوات، بدلاً من أن يأمر بوقف القتال . 3 - عزم سليمان بن عبد الملك أن يكون الخليفة الذي يفتح القسطنطينية، فينال الأجر والثناء الوارد في الحديث الشريف:{ لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش} ، فجهز لفتحها جيشين ضخمين بري وبحري، وقد بلغ عدد السفن المشاركة 1800 سفينة كبيرة، وزود الجيش بكميات ضخمة من المؤمن، واختار لقيادته أفضل القادة وأنجحهم في قتال الروم، وهو أخوه مسلمة، وتحرك الجيشان نحو القسطنطينية سنة 98هـ، ووصل الجيش البري إلى عمورية، فأرسل حاكمها ليون الأيسوري إلى مسلمة، يبين له أن همه الأكبر هو حفظ مدينته، ويعرض عليه المساعدة في فتح القسطنطينية مقابل عدم المساس بعمورية، فوافق مسلمة، فرافق ليون المسلمين إلى القسطنطينية، والتقى الجيشان، وأحكما عليها الحصار من البر والبحر، حيث نجح مسلمة في الوصول إلى الشاطئ الأوروبي، الذي يأتي منه المدد عادة أثناء الحصار، وبات المسلمون أقرب ما يكون إلى الفتح، فتدخل ليون، وطلب من مسلمة أن يأذن له بالتوجه لإقناع أهل القسطنطينية بالاستسلام، فأذن له، فتوجه إليها، وعقد اجتماعاً مع زعمائها، أقنعهم فيه أن المسلمين مصممون على دخول المدينة، وأنهم يملكون العدد والعُدد لتحقيق هدفهم، وأن صدهم لن يتحقق إلا إذا بايعوه إمبراطوراً بدلاً من إمبراطورهم تاوداسيوس، فعزلوه وبايعوا ليون، فخرج وقال لمسلمة: إن الروم لن يستسلموا إلا إذا علموا أنكم مستميتون في قتالهم، ولن يقتنعوا باستماتتكم، إلا إذا أحرقتم كل مؤنكم. فجمع مسلمة كل مؤن المسلمين وأمر بحرقه، وعاد ليون إلى المدينة مدعياً أنه يريد إقناع أهلها بضرورة الاستسلام قبل الهجوم الوشيك. أما المسلمون فقد تحطمت آمالهم بالفتح، ودفعوا غالياً ثمن خطأ قائدهم. يقول الطبري:" وخدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى أن الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب" . 4 - هاجم صدام حسين إيران لضم أراضي حدودية مختلف عليها، وقد تبين له خطأه بعد شهر من الحرب، فأعلن استعداده لوقف القتال، لكن الخميني أصر على مواصلة القتال حتى إسقاط صدام، فاستمرت الحرب ثماني سنين، ونتج عن هذا الخطأ الذي بدأه صدام وأكمله الخميني، مقتل نحو نصف مليون جندي عراقي ومثلهم من الإيرانيين، وخسائر بمئات المليارات، وأحقاد لن تمحوها مئات السنين. وقد حدثني من أثق به أن صدام استشار في ذلك الهجوم اللواء ركن والمؤرخ المعروف محمود شيت خطاب، حيث ذهب إلى بيته مستنصحاً، فقال المؤرخ لصدام:" أنصحك ألا تفعل"، لكنه لم يستجب. ونحن أقل من أن نقيّم القادة الكبار أولي الفضل العظيم، أمثال عقبة والوليد ومسلمة، ولكنهم بشر يصيبون ويخطئون، ولا يمكن أن تتحقق الفائدة من دراسة التاريخ، وتُتَجنب الأخطاء، وتستخلص الدروس والعبر النافعة لحاضرنا ومستقبلنا، إذا أغمضنا عيوننا عن السلبيات، وذكرنا الإيجابيات فقط.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.