تمثل ناقة صالح عليه السلام فكرة الحق المعجز الذي لا يمكن للباطل أن يصاوله بالفكر والمنطق والحجة والرهان، وعند لحظة عجز الباطل هذه يعمد إلى تجاوز حالة الحوار الفكري والعقلي إلى استخدام وسائل الإكراه القائمة على القوة العمياء المسيرة على غير هدى، اللهم بعضًا من مال أو مزايا يتوق لها من غاب عقله وكثر سلاحه.
الفريق الذي عقر ناقة الإجماع الوطني على المقاومة في جنين وتنكر للتوافق الذي عبر ضيق الفصائلية إلى رحابة المقاومة الوطنية الجامعة التي هزمت العدو في جنين، هذا الفريق كذب ذلك الإجماع وشق التوافق ونحا إلى الغرفة وبث الخلاف رغم يقينه بأنه على الباطل، هزمت جنين العدو بصدق التوافق والتلاحم الاخوي بين المقاتلين، فانبعث أشقاها، فعقر هذا التوافق الذي لا يروق أبدًا لمن تنكر سابقًا لمخرجات مؤتمر الأمناء العامين للفصائل، ثم دعاها اليوم مرة أخرى ليغطي بتلك الدعوة سوءة نكوصه الوطني عند اقتحام الاحتلال لجنين بتحييد أجهزته -التي طالما استخدمها عصا غليظة يضرب بها مخالفيه في التوجه السياسي- عن القيام بالحد الأدنى من واجبها في الدفاع عن جنين، وبدلًا من تضميد جراح جنين النازفة ودعم صمودها، عمد إلى نكأ جراحها ولاحق مجاهديها، وطعن الإجماع الوطني بإثارة النعرات الفصائلية المقيتة، وتجاهل كل الدمار والخراب الذي تركه العدو في جنين ليركز على مركز شرطة أحرقه بعض الثائرين غضبًا من نكوص أفراد الأجهزة الأمنية على أعقباهم إبان هجمة الاحتلال، وتركوا المخيم يواجه مصيره، وجعلوا من حرق مركز الشرطة قميص عثمان وراحوا يلوحون به في وجه الأبطال الذين صدوا اجتياح العدو وجعلوا من جنين أيقونة صمود وتحدٍّ عالمية.
كان بإمكان ذلك الفريق أن يتغاضى عن هذه الحادثة المعزولة، ويعلي من قيمة التوافق الذي ساد جنين وأثمر هذا الصمود الرائع، ولو لم يكن من أجل إبقاء جذوة التوافق الوطني القائم في جنين، فلأجل إنجاح مؤتمر الأمناء العامين الذي دعا إليه أبو مازن في إثر اقتحام الاحتلال لجنين، وذلك حتى يبقى لهذه الدعوة صدى في قلوب وعقول المعنيين رغم التجربة البائسة لهم في تعامل أبو مازن مع مخرجات المؤتمر الأول، ولكن يبدو أن الأشقياء الذين ما زالوا يفضلون منهج التنسيق الأمني والتساوق مع مخططات العدو الهادفة إلى ضرب الوحدة الوطنية القائمة على أساس مقاومة الاحتلال يجدون من يقوم دائمًا بالمهمة القذرة التي يأباها كل حر.
أتساءل: كيف يمكن لفلسطيني أن يُقدِم على اعتقال من بذل روحه رخيصة في سبيل الوطن وتصدى للعدو بسلاحه الطاهر وأقسم على صون شرفه وقدسيته؟ كيف يمكن أن يلاحق من دافع عن نساء وأطفال مخيم جنين، وبأي وجه يمكن لمن يقوم بهذه الجريمة أن ينظر إلى عيون أطفاله، وأي دم ذلك الذي يجري في عروقه، حتى لو برر جريمته هذه بدعاوى مزيفة كإعادة النظام أو فرض القانون، التي لا تعني إلا شيئًا واحدًا، وهو قيام الأجهزة الأمنية الفلسطينية بما عجز عنه الاحتلال خلال اقتحامه جنين، ولا أظن أن تلك المحاولات تفلح، كما لا أظن أن العدو الذي أقدم على اقتحام جنين بهذه الوحشية والهمجية ما زال يثق بقدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على القيام بالدور الذي يرضاه لها، إذن لَما أقدم على اقتحام جنين بهذه القوة الغاشمة، وكذلك لا أظن أن الذي تصدى لجبروت قوة الاحتلال وهزمها يرضى بعد ذلك بالخضوع لبرنامج التنسيق الأمني الذي يأباه كل ثائر.
جنين تقاوم الغاصبين منذ عام 1936م وثورة القسام التي تتجدد في أجيال مخيم جنين هي مآثر الأجداد التي يتناقلها أبناء جنين كثقافة شعبية تشكل جزءًا أصيلًا من الذاكرة الوطنية، جنين لا تُكسر ولا تهزم، ومن عقر ناقة توافقها ومقاومتها وعزها ومجدها سيدمدم ثوار جنين بجريمة التنسيق الأمني ويسوون بالأرض بناء هذا النهج الذي تطاول بالباطل على أرض الحق.