ضربت أزمة شح النقد الأجنبي قدرة مصر على تأمين وارداتها الغذائية وزاد اعتمادها على الاقتراض منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية لتوفير احتياجاتها الأساسية من الحبوب، خاصة القمح، إذ تعد أكبر مستورد في العالم للقمح.
وكشف وزير التموين المصري، علي المصيلحي، أن بلاده تجري محادثات مع الإمارات للحصول على تمويل بقيمة 400 مليون دولار لمساعدتها في شراء القمح، وسيأتي التمويل من صندوق أبوظبي للتنمية عبر شرائح تبلغ قيمتها 100 مليون دولار.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتجه فيها مصر للاقتراض من أجل تمويل وارداتها من الحبوب، ففي حزيران/ يونيو الماضي اقترضت 700 مليون دولار من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة ضمن اتفاق تمويل يعود إلى عام 2018، وتمّ تجديده العام الماضي لمدة خمسة أعوام إضافية بعد مضاعفة حد الائتمان المتفق عليه من ثلاثة مليارات إلى ستة مليارات دولار.
وفي حزيران/ يونيو 2022، وافق البنك الدولي على إقراض مصر 500 مليون دولار لتعزيز جهودها في تحقيق الأمن الغذائي في مواجهة انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في آذار/ مارس من نفس العام على الأمن الغذائي.
تأخر عن السداد
في أيار/ مايو الماضي تخلفت مصر عن سداد ثمن وارداتها من القمح، ونقلت وكالة "رويترز"، عن مسؤولين حكوميين وتجار ومستوردين أن الحكومة المصرية قررت تأجيل سداد ثمن وارداتها من القمح منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بفعل أزمة شح الدولار، وسط مخاوف كبيرة من أن تطال الأزمة رغيف الخبز المدعم، والذي يستفيد منه أكثر من 71 مليون مصري.
وأشارت الوكالة إلى وجود شحنات قمح ما زالت بالسفن والموانئ المصرية تحتاج لدفع ثمنها بالعملة الأمريكية، وأنه بفعل أزمة شح الدولار فإن هناك 11 شحنة لم تدفع القاهرة ثمنها، بجانب الحاجة لفتح خطابات اعتماد لـ8 شحنات أخرى.
وهو ما أكده مستوردون في وقت لاحق وقد اشتكوا من تلف كميات من الحبوب المُحتجزة في الموانئ نتيجة طول فترة تخزينها، بسبب ندرة الدولار، مشيرا إلى أن ديون الحكومة والقطاع الخاص مقابل الحبوب الروسية المستوردة بلغت 320 مليون دولار، بحسب موقع "مدى مصر" المحلي.
وتستورد مصر نحو 12 مليون طن من القمح سنويا، وتستهلك قرابة الـ18 مليون طن، من بينها نحو 9 ملايين طن لإنتاج الخبز المدعوم الذي يُصرف على البطاقات التموينية لإنتاج ما يقرب من 270 مليون رغيف يوميا.
انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب يعمق الأزمة
وانتهى الاثنين، اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود دون أي تمديد، وهو الاتفاق الذي توسطت فيه الأمم المتحدة وتركيا ويتيح تصدير الحبوب الأوكرانية بشكل آمن عبر البحر الأسود، ما أدى إلى ارتفاع أسعار القمح عالميا.
وفي وقت لاحق انطلقت شرارة ارتفاع أسعار القمح وقفزت بشكل حاد في الأسواق العالمية بنحو 9%، بعد إعلان روسيا أنها ستتعامل مع السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية كأهداف عسكرية واعتبار الدول التي ترفع عليها علمها حليفة لأوكرانيا في الحرب.
وتوقع مستشار وزير التموين لشؤون السلع التموينية، نعماني نصر نعماني، عدم تأثر مصر من إنهاء اتفاقية تصدير الحبوب بسبب تنوع مصادر القمح الذي تستورده، مشيرا إلى أن روسيا وأوكرانيا ليستا الموردين الرئيسيين للسوق المصرية في الفترة الحالية.
لكن تقارير صحفية تشير إلى أن روسيا لا تزال على قائمة الدول المصدرة للقمح إلى مصر، وكانت مع أوكرانيا توفران نحو 80% من وارداتها، 50% من روسيا و30% من أوكرانيا، ما اضطرها إلى التوجه إلى أسواق جديدة بأسعار أكثر ارتفاعا لتوفير احتياجاتها.
انعكاسات الأزمة والبدائل
وبشأن انعكاسات ارتفاع أسعار الغذاء المحتمل بعد إلغاء روسيا اتفاقية الحبوب على الأمن الغذائي في مصر، قال مستشار وزير التموين سابقا، عبد التواب بركات، إن "وقف اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا سيكون له تداعيات مباشرة على ارتفاع أسعار الغذاء في السوق الدولية، ولكن هذه التداعيات سيكون تأثيرها على مصر غير كبير، لأن مصر لم تستورد من أوكرانيا إلا كميات قليلة من القمح والذرة بسبب ارتفاع أسعارها المتناسب مع الجودة مقارنة بأسعار المنتجات الروسية".
وأضاف: "استوردت مصر العام الماضي أكثر من 80% من احتياجاتها من القمح الأجنبي من روسيا، ولكن وقف اتفاقية تصدير الحبوب سيكون له تأثير غير مباشر على مصر، حيث سيزيد اعتماد الحكومة المصرية على القمح الروسي منخفض الجودة من حيث محتوى البروتين المنخفض، ونسبة الرطوبة المرتفعة، والمحتوي على فطر الإرغوت، طمعا في السعر المنخفض وتكاليف الشحن الأقل، ومن أجل شراء الولاء السياسي الروسي الداعم لنظام الجنرال السيسي وإن أتى على حساب صحة المواطن المصري".
أما في ما يتعلق بخطط مصر لمواجهة الأزمة خاصة في ظل شح الدولار، فأوضح بركات أن "على النظام في مصر أن يشتري القمح من الفلاح المصري بسعر عادل يحقق هامش ربح حقيقي ويناسب تكاليف الإنتاج المرتفعة، حتى يوفر الدولار الذي يدفعه في استيراد القمح من الخارج، ويلبي متطلبات الدستور الذي ينص على إلزام الحكومة بشراء المحاصيل الزراعية بسعر مجز، وعليه أن يعلن عن شراء الأرز من الفلاحين هذا الموسم بسعر مجز ليحقق مخزونا استراتيجيا يكون بديلا لرغيف الخبز ويخفف الضغط عن استهلاك القمح الأجنبي في صناعة الخبز بأنواعه والمعكرونة".
وقف المشاريع لإتاحة شراء القمح
بدوره، اعتبر الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري أحمد ذكر الله، لجوء مصر إلى الاقتراض من أجل شراء القمح "مؤشرا قويا على مدى عمق الأزمة الاقتصادية وليس أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد، فقط، والمثير في الأمر أنه يجعل مستقبل الأمن الغذائي في واحد من أكبر البلدان العربية في عدد السكان على المحك".
وأشار إلى أن "مسالة تأمين الغذاء وخاصة الحبوب مثل القمح والذرة وفول الصويا هي على رأس أولويات الحكومة لأن المخزون الاستراتيجي من القمح هو صمام أمان الدولة المصرية التي يرزح جزء كبير من سكانها تحت خط الفقر".
ورأى ذكر الله أن "مصر ليس أمامها سوى مواصلة الاقتراض لتأمين الغذاء في حال استمرت على سياستها الاقتصادية والنقدية دون تغيير، ولكن لو أوقفت المشروعات الضخمة التي يدخل فيها المكون الدولاري فسوف تكون قادرة على توفير ثمن القمح لاحقا دون الحاجة للاقتراض".
بحسب نشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أدى ارتفاع أسعار القمح العالمية إلى ارتفاع فاتورة واردات مصر من القمح إلى أكثر من نحو 4.3 مليار دولار خلال العام الماضي 2022.
وما يساعد مصر على امتصاص الأزمة لبعض الوقت هو انتهاء موسم توريد القمح المحلي، حيث جمعت منذ بداية الموسم وحتى الآن 3.8 مليون طن قمح أي ما يمثل 91% من حجم المستهدف، ما ساهم في ارتفاع الاحتياطي الاستراتيجي من القمح إلى 5.2 شهر.