"مرت الأيام الستة وكأنها دقيقة أو حتى أقل، لم اشبع من وجه أمي بعد، ولم اقبل يديها وجبينها بما يكفي لأرد لها الجميل، وسأغادر مخيم بلاطة في مدينة نابلس مجددا، لأعود مجبرا إلى الغربة التي اعيش فيها منذ 52 عاما"، بهذه الكلمات ودع المسن أحمد خديش -70 عاما- أمه العجوز التي باتت على اعتاب التسعين من عمرها، وبقية أفراد عائلته وأزقة مخيمه، بعد انتهاء المهلة القصيرة التي حصل عليها من الاحتلال الإسرائيلي لزيارة ذويه، بعد أن غادر البلاد عام 1971، حيث كان مطلوبا للاعتقال من الاحتلال حينها.
يقول خديش لـ"فلسطين الآن": "خرجت فارا من سجون الاحتلال، إلى لبنان ومنه إلى العراق ثم كان الاستقرار في الأردن. عدت لفلسطين لأقل من شهر مع قدوم السلطة الفلسطينية في أواسط التسعينات، لكنني خرجت مجددا، وحاولت طيلة السنوات الماضية العودة لكن الاحتلال كان يرفض،حتى حصلت على تصريح زيارة لستة أيام فقط".
وتابع "ماذا تكفي هذه المدة القصيرة لتعويض كل هذا الغياب. هي لا تكفي حتى لاشبع من رؤية وجه امي والبقاء إلى جانبها، وهي التي عانت كثيرا طيلة العقود الماضية، وخاصة بعد اعتقال اخي الاسير خالد خديش عام 2001 والحكم عليه بالسجن المؤيد لثلاث مرات، ولاحقا اعتقال ابنائه أحمد ومحمود، وما سبق ذلك خلال الانتفاضة الأولى وسلسلة طويلة من القصص التي كنت اتابعها معهم في غربتي لحظة بلحظة".
يصف خديش شعوره لحظة دخوله لفلسطين ولمدينة نابلس ومخيم بلاطة بعد كل تلك السنوات "المخيم هو المخيم، لكن البيوت ارتفعت اكثر، وغابت الخيام التي كانت حين سافرت موجودة. الاكتظاظ زاد أيضا، لكن روح المقاومة فيه ما تزال مشتعلة".
يضيف "المخيمات محطات مؤقتة لحين العودة، ونحن كبرنا وتعلمنا ممن هم أكبر منا أن لا نتنازل عن حق العودة، وهذا ما زرعناه في الأجيال الجديدة".
وعن غربته يقول "اثنان وخمسون عامًا، مرّت أيامها ثقيلة على قلبي، حيث تنقلت بين الدول، باحثًا عن الاستقرار، ولن يكون إلا بالعودة الحتمية لفلسطين والموت على ترابها".
بدأت القصة عام 1971، حينما غادر أحمد -الذي تعود أصوله لبلدة "إجزم" قضاء حيفا- مخيم بلاطة، واعتمد كما قال على نفسه، حيث كانت بدايته في لبنان، وهناك التحق بالجامعة للدراسة، وما لبثت أن نشبت الحرب الأهلية، فاضطر للانتقال إلى مصر، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة الاسكندرية.
انتقل بعدها للعمل في مجال التعليم في العراق، وتزوّج هناك وكوّن عائلة كبيرة، قبل أن يغادر العراق، ويلجأ للأردن، ويستقر بها مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.
وأتيحت لأحمد زيارة وطنه لأول مرة عام 1996 بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، وعاد مع من عادوا واصطحب معه عائلته، والتقى والده الذي كان لا يزال على قيد الحياة، وكان يخطط في تلك الزيارة للبقاء والاستقرار في وطنه، لكنه اضطر للسفر مجددا، حيث لم تدم زيارته سوى شهر واحد.
يعلق قائلا "حتى قبل تأسيس السلطة لم يكن اجراء الاتصالات الأرضية بين الدول العربية بشكل عام وفلسطين أمرا سهلا، ولم يكن هناك اصلا هاتف لدى عائلتي في المخيم، فكان التواصل إما بالرسائل البريدية أو بالحديث على فترات بعيدة مع الجيران الذي يمتلكون هاتفا في بيتهم. ويتابع "كنت دوما افتقد للأهل والأقارب. لم يكن لي أي قريب خارج فلسطين، وكنت وحيدا في الإبعاد، ولهذا عانيت بشدة في حياتي".
ولا ينكر خديش أنه وجد صعوبة في التعرف على أبناء وبنات اشقائه وشقيقاته، الذين ولدوا وكبروا وهو في الغربة. كما أنه فقد الكثير من الأقارب والأصدقاء والجيران، ومن بقي منهم حيًّا وجد صعوبة في التعرف عليه.
ويختم قائلا قبل وداع الأهل والاغتراب مجددا: "أمنيتي أن أعود أنا وعائلتي ونعيش هنا، أن أصلي في القدس، وأن أبقى مع والدتي وأشقائي وشقيقاتي حتى يأتي أمر الله".