أعجبني كثيراً خطاب السيد عباس، فقد كان واثقاً، وكان الرجل فصيحاً بيّناً في حجته، وكان دقيقاً في منطقه، تعرض لكثير من أسس الصراع مع الإسرائيليين، ولتفريعاته، وسأعترف هنا أن الرجل كان أبلغ أسلوباً، وأدق لفظاً من عدوه "نتانياهو" الذي بدا أمام وفود الأمم المتحدة متلعثماً، مرتجفاً متعجرفاً وهو يعرض قناعاته. ولو سألت عن السبب الذي يجعل عباس (الضعيف) نجماً، ويجعل "نتانياهو" (المتغطرس) عيياً عنين، غير قادر على العويل والأنين، لو سألتني لقلت: كان السيد عباس يتحدث عن ظلم قائم، ويصف قتلاً تسيل معه الدماء، ويحك على وجع آلاف السجناء، ويذكر الناس بأنات الأشجار المقلوعة، والبيوت المنسوفة، ويحكي عن همهمة الأرض المغتصبة، بينما كان "نتانياهو" يبرر الأعمال التي استدعى عباس صورتها من ذاكرة العالم، فحاول أن يسدل ستاراً من الكذب المكثف، فدفن حجته، ليظل عباس شفافاً رقيقاً، وهو يعزف على الوتر المشدود في وجدان بني البشر. وماذا بعد التصفيق الحار؟ هكذا سأل أحد الفلسطينيين محاوره، وأضاف: ما الجديد؟ أليست السياسة فن توظيف المعطيات بالشكل القادر على إحداث المتغيرات؟ لذا سأسجل ثلاث قضايا على حديث السيد عباس، كانت سبب الجمود، وضياع الأمل المنشود: الأولى: ما زال السيد عباس يشبه المقاومة الفلسطينية بالعنف، وعندما ينبذ عباس العنف، فهو ينبذ المقاومة، ومن ينبذ المقاومة فهو كالعدّاء الذي يدخل السباق مقيد الأرجل واليدين. الثانية: قصّر عباس زمن الصراع مع بداية الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، ولم يركز على أصل الصراع، ولم يعد فيه إلى الجذور، عندما اغتصب الصهاينة أول قطعة أرض من فلسطين، لقد فات مُعدُّ الخطاب أن يتشكك بشرعية دولة الكيان نفسها، وأن يطعن في أصل وجودها، وأن يقلّب صفحات التاريخ الحديث التي اندفنت تحت غبار المفاوضات المضنية، وخلف اللهاث العبثي للحصول على اعتراف العالم بدولة فلسطين على حدود 67. ثالثاً: لقد هاجم السيد عباس القيادة الإسرائيلية على عدوانيتها، وبرأ الإسرائيليين من دمنا، إن مهاجمة الحكومة وتبرئة الشعب فيه فصل بين القيادة الراهنة في (إسرائيل) وبين غيرها من قيادات سابقة، وكأن السيد عباس يمهد لزمن يتمنى أن يرى فيه قيادة إسرائيلية أقل تطرفاً وعدوانية! لقد وقع عباس في الخطأ الجسيم حين فصل بين الناخب والمنتخب، وبين القائد والجندي، متناسياً أن الحكومة الإسرائيلية تمثل الأغلبية البرلمانية المنتخبة في الكنيست، وتعكس مزاج الشارع الإسرائيلي، بل يتجه مزاج الإسرائيليين - وفق استطلاعات الرأي- إلى مزيد من التطرف والتشدد الذي أعجز الحكومة اليمينية الراهنة عن مجاراته!. أما الجمود المحزن في خطاب السيد عباس، فهو لفظة "المفاوضات" تلك اللازمة التي لم تفارق سياسة الرجل، إنه يحشر براءة القضية، ويصب عدالة حقنا النازف في فنجان المفاوضات، حتى صار عباس مثل صانع القهوة، في يده الركوة، يقدمها من النار، أو يبعدها قليلاً، يضيف إليها كمية من القهوة السمراء، أو القهوة الشقراء، يضع عليها السكر، أو يتركها سادة، يحركها بالملعقة أو يتركها لتغلي، وتفور، فهو في النهاية لا يرى في مطبخ السياسة غير القهوة، ولا شيء غير القهوة، إنها قهوة المفاوضات العبثية!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.