بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صعّد المستوطنون اعتداءاتهم ضد التجمعات البدوية المنتشرة بالضفة الغربية، مستغلين اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتنفيذ مخططات ترحيل أهالي التجمعات البدوية والأغوار من أجل السيطرة على الأرض.
نهاية أكتوبر، اضطر 141 فلسطينياً نصفهم من الأطفال في خربة زتونة جنوبي الضفة الغربية لترك نحو 50 مبنى وإخلاء المنطقة، بعدما هددهم المستوطنون بالقتل إذا لم يخرجوا من المنطقة خلال ساعة واحدة.
وفي 11 أكتوبر لم تمضِ 8 أسر تضم 51 شخصاً من سكان التجمع الرعوي شحدة وهملان في الأغوار الوسطى بالضفة الغربية ليلة خريفية هادئة مثل العادة، إذ هاجمهم عشرات المستوطنين المسلحين، وهددوا بقتلهم وبإضرام النار في خيامهم وبمواشيهم إذا لم يتركوا المكان خلال ساعات قليلة. ولم تشرق شمس اليوم التالي حتى رحلت الأسر الثماني.
يقول المهجّر منذر كباش: "من كان سيمنع المستوطنين من ارتكاب مجزرة قتلنا جميعاً. إنهم مختلفون عن السابق، فهم مسلحون ويحظون بحماية مطلقة من حكومتهم وجيش الاحتلال. وفي ظل انشغال العالم بما يجري في غزة لن يلتفت لنا أحد، لذا لم نملك إلا خيار الرحيل".
يتابع: "نحن اليوم مشتتون، وملاحقون. ومن يعتقد بأن رحيلنا عن التجمع الذي عشنا فيه طوال عقود يجعلنا في مأمن مخطئ، فكل الاغوار تحت سطوة المستوطنين، ومن لم يهجّر سيصل الدور إليه. نحن منسيون ووضعنا في مهب الريح".
وعلى بعد كيلومترات تلقى أهالي خربة يانون التابعة لبلدة عقربا جنوب شرقي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية تهديداً بـ"الرحيل أو الموت"، لكنهم يؤكدون أنهم صامدون حتى الرمق الأخير.
ويقول رئيس المجلس القروي راشد مرار: "بدأت محاولة إخلاء يانون مع الانتفاضة الثانية نهاية عام 2000، بعدما أحاطت بنا ثلاث مستوطنات، وشن هجمات دموية عليا، وقطع المياه والكهرباء مرات. وقد غادر بعض السكان إلى مواقع أكثر أمناً، لكن آخرين رفضوا، وأصروا على أن يبقوا شوكة في حلق الاحتلال والمستوطنين".
ويسكن 92 شخصاً في يانون بحسب جهاز الإحصاء الفلسطيني، وتبلغ مساحتها 16.450 دونماً.
يقول مرار: "بات الأمر أخطر بكثير بعد 7 أكتوبر، إذ وصلتنا تهديدات مباشرة بارتكاب محرقة عبر رسائل نصية واتصالات هاتفية من مستوطنين كثيرين، لكننا رددنا بأننا باقون حتى إذا كتب لنا الموت شهداء في أرضنا التي نرفض أن تصبح لقمة سائغة للاحتلال ومستوطنيه".
وخلال الأسابيع الأخيرة جرف المستوطنون أراضي لمواطني الخربة تمهيداً للاستيلاء عليها بحماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما فرضوا إجراءات منعت إيصال الخدمات الأساسية، ومنها المياه التي تعتمد عليها المجتمعات الرعوية في الشرب وري المزروعات وسقي الأنعام.
ويؤكد المحامي حسن مليحات، منسق منظمة "البيدر" للدفاع عن حقوق البدو لـ"العربي الجديد": "ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنون خلال الأسابيع الأخيرة 215 اعتداءً ضد التجمعات البدوية في الضفة الغربية المحتلة. وهم يحاولون استغلال ظروف الحرب على غزة لتنفيذ أكبر عملية تهجير جماعي ضد التجمعات البدوية، ومهاجمة عشرات التجمعات الرعوية والبدوية".
وتنتشر التجمّعات البدوية الفلسطينية بكثرة فوق المرتفعات الشرقية للضفة، وتقع غالبيتها في المناطق (جيم) التي تمثّل نسبة 62 في المائة من مساحة الضفة. ويتبادل الاحتلال والمستوطنون فيها ارتكاب جرائم تخالف المواثيق الدولية ضد البدو الفلسطينيين باسم "الاستيطان الرعوي"، وهو صيغة مبتكرة جديدة تهدف إلى ترحيل التجمعات البدوية، وخلق بيئة طاردة لهم من أجل إحلال المستوطنين بدلًا منهم.
والمناطق التي ينتشر فيها البدو مليئة بالثروات الطبيعية، ما يجعلها هدفاً للاحتلال للسيطرة عليها وإقامة البؤر الاستيطانية وإحلال المستوطنين، لذا يعمل الاحتلال على ترحيل البدو قسرياً لـ"إعادة هندسة الوجود الفلسطيني" في هذه المناطق، وفرض تفوق المستوطنين على الفلسطينيين عددياً، وإخلائها لغايات التوسع الاستيطاني، والاستفادة من الثروات الطبيعية.
وتكشف معلومات وأرقام صادمة مآسي عشرات التجمعات البدوية والرعوية المنتشرة في الأغوار وبادية القدس والخليل وأريحا. وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة "أوتشا"، في تقرير نشره اخيراً، أن مستوطنين مسلحين هددوا بعد 7 أكتوبر بقتل أفراد عائلات في المجتمعات التي تعمل بالرعي في مناطق مختلفة من الضفة الغربية إذا رفضوا ترك منازلهم والمنطقة بكاملها.
وأورد التقرير أن "المستوطنين يشرفون بأنفسهم على عمليات تهجير جماعي قسري لعدد كبير من الأسر التي تضم مئات الأطفال، وهناك مخاوف كبيرة بشأن الأسر التي بقيت في مناطقها، ولا تزال تواجه هجمات المستوطنين، علماً أنه جرى تهجير سكان أربعة تجمعات أصبحت فارغة تماماً، كما نزح أكثر من 50 في المائة من سكان 6 تجمعات أخرى".
وأكد التقرير الأممي أن "التهجير الذي يقوده المستوطنون غير مرتبط بأحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إذ تهجر 2000 شخص من 28 تجمعاً عام 2022، ثم 828 شخصاً بينهم 313 طفلاً من 15 مجتمعا رعوياً في أنحاء الضفة الغربية. وفي نصف الحالات تقريباً، رافقت قوات الاحتلال الإسرائيلية المهاجمين المستوطنين أو دعمتهم مباشرة".