18.33°القدس
17.95°رام الله
17.75°الخليل
23.28°غزة
18.33° القدس
رام الله17.95°
الخليل17.75°
غزة23.28°
الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
4.92جنيه إسترليني
5.32دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.11يورو
3.77دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.92
دينار أردني5.32
جنيه مصري0.08
يورو4.11
دولار أمريكي3.77

خبر: تصنيف الناس وقولبتهم

حين دعوت في إحدى مقالاتي إلى تصحيح الأمراض الثقافية التي تنخر في المجتمعات العربية اتهمني أحد الأشخاص بأنني أروج لمبادئ الماسونية، وأن مهاجمتي للثقافة هي مهاجمة للدين.. هكذا بمنتهى البساطة!! وحين حدثت أحد أصدقائي عن أحد المفكرين قال لي إنه شيعي رافضي فلا تسمع منه!! تعليب الناس في قوالب جاهزة يوفر عناء الحوار الفكري فبدل مناقشة الأفكار فكرةً فكرةً والرد عليها بالحجة والبرهان فإن اختزال الأشخاص في تصنيفات جاهزة من قبيل "شيعي-علماني-ماسوني-..." يوفر العناء كما أنه ينزع الشرعية عن فكر هذا الشخص ويحرمه من حقه في الاختلاف الفكري والتعبير عن رأيه.. تعليب الناس في هذه القوالب الجاهزة يعني أننا نخرجهم من دائرة الذات إلى دائرة الآخر اللا شرعي، فبدل أن ننظر إلى هذا المختلف بأنه جزء من نسيجنا الثقافي والاجتماعي، وأن ما يقوله يأتي في إطار النقد الذاتي والتصحيح، فإن الطريق الأقل كلفةً هو أن نتهمه بالانحراف والخروج عن ملة الآباء والانضمام لفريق الباطل، وبذلك فإن هذه التصنيفات الجاهزة تعني نزع الشرعية عن أفكار صاحبها وحرمانه من حقه في التفكير والتعبير، فهو مهما طرح من أفكار فهي أفكار مشبوهة مشيطنة فوجب ألا نسمع إليها، وأن نصم آذاننا ونسد منافذ أفهامنا حتى لا تتسلل إلينا عدواها.. الإنسان أعقد من أن يختزل في تصنيفات حدية صارمة، فهناك مبدأ الفردية الذي يعني أن لكل إنسان شخصيته المتفردة التي لا يشاركه فيها أحد، أما الصيغ الفكرية والمذهبية الجاهزة فهذه لا تلغي حقيقة الاختيار الفردي للإنسان، فكل فرد يتفق مع إحدى هذه الصيغ في مساحة ويختلف في مساحة أخرى بما يؤكد مبدأ فرديته وتمرده على محاولات التطويع والقولبة. القرآن يراعي حقيقة الاختلاف الفردي، لذا فهو يحرر الجماعات البشرية من القوالب الجاهزة، فهو حين يتحدث عن أهل الكتاب يؤسس لمنهج رائع يتلخص في قوله تعالى "ليسوا سواءً"، وحتى حين يقتضي السياق إطلاق حكم عام فهو يبقي استثناءً لتأكيد حقيقة أن كل فرد من أفراد تلك الأمم يملك حريةً يعبر بها عن رؤيته الفردية "كان أكثرهم مشركين"، "إلا قليلاً ممن أنجينا"، "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". هذا يعني أنه مهما بلغت سطوة الثقافة فإن حقيقة الاختيار الفردي الإنساني تأبى إلا أن تعبر عن نفسها في أفراد يتحررون من القوالب الاختزالية الجاهزة.. حين قيل لي إن ذلك الرجل شيعي فاحذر قلت إن هذا لا يعنيني البتة، فسواءً كان شيعيًا أو شيوعيًا أو علمانيًا أو ملحدًا أيًا كان الأمر فهو يطرح أفكارًا وأنا أناقش المقول لا القائل، فلا توجد قيمة موضوعية لتصنيفه. التصنيفات الجاهزة الاختزالية تعني أننا خرجنا من دائرة التعدد الفكري المشروع إلى دائرة الاصطفافات الحادة والصراعات الصفرية التي يسعى فيها كل طرف إلى إفناء الخصم، فهذا الذي يطرح أفكارًا هو شخص مشبوه ينتمي إلى معسكر العدو النجس فيجب محاربته وحرمانه من أي فرصة للتواصل مع الجمهور حتى لا يلوث أفكارهم.. إن شيطنة الناس وقولبتهم ومحاكمة نياتهم هو الذي يهيئ الأجواء بعد ذلك لقتلهم والسعي إلى إلغاء وجودهم.